١٥ مارس ٢٠٠٦

عن صفر الجامعات و صفر المونديال

هـزل في مقـام الجـد
فهمى هويدى-الاهرام 14/3/2006
إذا أردت نموذجا مصريا صميما لتداخل الهزل مع الجد‏,‏ والوهم مع الحقيقة‏,‏ فستجد ضالتك في المناقشات المطولة التي أجراها مجلس الشوري في الأسبوع الماضي‏,‏ حول مشروع إنشاء هيئة لمراقبة جودة التعليم‏.‏ وهي الفكرة التي تثير دهشة المرء لأول وهلة‏,‏ باعتبار انه لم يعد في بر مصر تعليم يمكن تجويده‏!‏‏
(1)‏لم أجد غرابة في الفكرة من حيث المبدأ‏.‏ لكنني استغربت للغاية مناقشتها وأخذها علي محمل الجد‏,‏ ومن ثم تضييع وقت المجلس علي مدي ثلاثة أيام في الجدل حول تفصيلات القانون الذي تبناها‏.‏ ولست ألوم الذين أعدوا المشروع‏,‏ واجهدوا أنفسهم في صياغة مواده‏,‏ باعتبار أن لهم مصلحة في تسويق بضاعتهم‏,‏ لكني لا أستطيع أن اعفي من اللوم أولئك الذين لم يفطنوا إلي الهزل في الموضوع‏,‏ ولم يخطر علي بال أحدهم أن يستدرك قائلا‏:‏ أليس من المنطق أن نوفر التعليم في البلد أولا ثم نسعي إلي تحسينه وتجويده؟
إنني لا أتصور أن أعضاء المجلس لايعرفون أن ثمة كارثة تعليمية من العيار الثقيل في مصر‏,‏ لها عواقبها الوخيمة التي تتجاوز الحاضر‏,‏ وتهدد بإجهاض الآمال المعقودة علي المستقبل‏.‏ ولا أريد أن اصدق انهم يعرفون ولكن لايريدون أن يتكلموا حتي لاتفوح رائحة الفضيحة‏.‏ ذلك أن الملف لم يعد فيه سر‏,‏ والفضيحة جري إشهارها علي الملأ‏,‏ بعدما أخرجت التقارير الدولية الجامعات المصرية من قوائم المؤسسات التعليمية المعتبرة‏,‏ وبعدما أفاضت الصحف المصرية بمختلف توجهاتها في الكشف عن وقائع وشواهد الصورة المشينة للتعليم في كل مراحله‏.‏مفزع في الكارثة لا ريب أنها وقعت وأصبحت ماثلة بين أيدينا‏,‏ ولها صداها الموجع في كل بيت مصري‏,‏ ولكن الأكثر مدعاة للفزع والخوف هو درجة اللامبالاة التي تتعامل بها الجهات المعنية مع تجلياتها المختلفة‏,‏ وتلك الجهود التي تبذل من جانب البيروقراطية المصرية للتستر علي الكارثة والتهوين من شأنها‏.
‏‏(2)‏قبل أيام قليلة علي إرسال مشروع قانون هيئة جودة التعليم إلي مجلس الشوري في‏(2/27),‏ نشرت صفحة شباب وتعليم في جريدة الأهرام تعليقا لزميلنا لبيب السباعي‏,‏ وهو من الخبراء المختصين بالموضوع‏,‏ مس فيه بعضا من جوانب المشهد الذي نتحدث عنه‏,‏ الذي وصفه بأنه مصيبة سوداء‏.‏ وقال إنه توقع أن تقوم الدنيا ولاتقعد في مصر بعدما تلقت أنباء الصفر الأكاديمي دوليا وإفريقيا‏,‏ وفق تقارير دولية اختفت منها جامعات مصر بالكامل من قائمة أفضل‏500‏ جامعة في العالم‏,‏ وهي القائمة التي ضمت سبع جامعات إسرائيلية‏.‏ وبعدها بعام كامل جاءت قائمة أفضل مائة جامعة في إفريقيا‏,‏ لكي تحتل جامعة القاهرة العريقة المركز رقم‏28,‏ في حين تقدمت عليها جامعات أخري في تنزانيا وناميبيا وأوغندا وموزمبيق وموريشيوس‏!
‏ ـ وهي الدول التي كانت تحلم قبل سنوات بأن ترسل ابناءها النوابغ للدراسة الجامعية علي منح مجانية كانت تقدمها لهم مصر‏,‏ وفاء لدورها الريادي والطليعي في القارة‏.‏انتقد زميلنا بمرارة غياب أي صدي له قيمة لفاجعة تراجع الجامعات المصرية‏.‏ فلا الوزير المختص اهتز له جفن‏,‏ ولا المجلس الأعلي للجامعات تعامل بجدية مع النتيجة‏,‏ ولا الجامعات ذاتها تحركت‏,‏ ولا لجان مجلسي الشعب والشوري عنيت بتحري أسباب الكارثة وملابساتها‏.‏ وباستثناء بعض ردود الأفعال الفردية‏.‏ فان أحدا لم يبد مدركا لخطورة انهيار الجامعات وفقدانها رصيدها العلمي والتاريخي‏,‏ وتأثير ذلك علي حاضر مصر ومستقبلها‏.‏ وبلغت المرارة ذروتها في إشارة لبيب السباعي إلي أن رد الفعل في مصر إزاء صفر المونديال‏(‏ حين استبعدت مصر ولم تحصل علي صوت واحد في الاقتراع علي استضافة المباريات‏)‏ كان أضعاف رد الفعل في صفر الجامعات‏(‏ في الأولي انهال اللوم علي جهاز الرياضة وأحيل بعض المسئولين إلي التحقيق واستبعد الوزير من تشكيل الوزارة‏,‏ في حين لم يحدث شيء في فضيحة الجامعات‏).
‏نقل زميلنا في تعليقه رأيا موجعا لأستاذ جامعي في الطب من جيل الرواد‏,‏ ذكر فيه أن خريج الطب في مصر كان في السابق يحظي بالتقدير والاحترام في جامعات أوروبا وأمريكا‏,‏ لكنه في ظل التدهور الراهن اصبح يعاد امتحانه إذا ما تقدم للعمل بدول الخليج‏,‏ حتي إذا كان حاصلا علي درجة الماجستير‏.‏ وخلص الأستاذ إلي أن مستوي الجامعات المصرية تدني لدرجة هبطت به إلي ما تحت الصفر‏,‏ وأننا نحتاج إلي جهد يبذل لكي نصل إلي درجة الصفر‏(!).
‏بعد أن يغتم المرء من جراء هذا الكلام‏,‏ يعاجله زميلنا بلطمة أخري‏,‏ إذ يتحدث عن إعلان نشرته إحدي الصحف لأستاذ جامعي يتولي توريد الأبحاث العلمية اللازمة للراغبين في الحصول علي شهادات الماجستير والدكتوراه‏,‏ مشيرا إلي أنها ليست حالة فردية‏,‏ ولكنها ظاهرة عامة‏,‏ لأن هناك عديدا من المراكز التي أسسها أساتذة معروفون لتسويق أمثال تلك الأطروحات الجاهزة في كل التخصصات‏,(‏ نسبة غير قليلة منها تباع لأبناء الدول الخليجية‏).
‏‏(3)‏هذه القصة نشرها بريد الأهرام في‏(2005/6/16):‏ ظل ميكانيكي السيارات يتعامل مع زبونه أستاذ الجامعة بمنتهي التوقير والاحترام لعدة سنوات‏,‏ ولكنه انقلب عليه بمعدل‏180‏ درجة حين كبر أولاده والتحقوا بالكليات‏,‏ حيث تحول الاحترام إلي ازدراء‏,‏ بعدما أدرك الرجل حقيقة الفساد في الجامعات المصرية‏.‏ وهو ما اعتبره صاحب الرسالة‏(‏ الدكتور منصور عبدالرحمن‏,‏ الأستاذ بهندسة المنصورة‏)‏ تحولا مفهوما‏.‏ وعلق علي القصة قائلا‏:‏ إن الفساد يستشري يوما بعد يوم في جامعاتنا المصرية‏,‏ فبأي ماء وجه أو حياء نتحدث عن البحث العلمي والمستقبل؟
في الفم ماء كثير‏.‏ ذلك أن وقائع التدهور وشواهده تتجاوز كل ما يخطر علي البال‏.‏ حتي يغدو هذا الذي مررنا به مجرد نقطة في بحر‏.‏لا أريد أن أطلق الكلام بحيث اغمط حق نماذج في الجامعات لأساتذة شرفاء لايزالون قابضين علي الجمر‏,‏ لكن هؤلاء اصبحوا استثناء في الوقت الراهن‏,‏ فضلا عن انهم تحولوا إلي فئة غريبة ومنقرضة‏,‏ بعدما انقلبت الآية واصبح غيرهم هم الأصل والقاعدة‏.‏بعض هؤلاء الأساتذة القابضين علي الجمر لم يحتملوا هول ما يرون‏,‏ فلم يكفوا عن إنكاره والتحذير من مغبته في كل منبر ومحفل ومناسبة‏.‏ ولدي ملف حافل بكتابات نشرتها لهم الصحف والمجلات تستصرخ من يهمه الأمر لإنقاذ سفينة التعليم الغارقة‏.‏في مقدمة هؤلاء الدكاترة حامد عمار وسعيد إسماعيل ومحمد أبوالغار وكمال نجيب ورءوف عباس والشافعي بشير ورضوي عاشور ومصطفي كامل السيد‏..‏ وغيرهم‏.‏
ولأن المجال لايتسع لعرض التفاصيل الكارثية التي أوردوها في كتاباتهم‏,‏ فإنني سأكتفي باستعراض عناوين الفواجع التي استأثرت باهتمامهم‏,‏ ومنها علي سبيل المثال‏:‏ شيوع السرقات العلمية بين أعضاء هيئات التدريس ـ تراخي القيادات الجامعية في محاسبة المنحرفين ـ انتشار الدروس الخصوصية‏(‏ بعض المدرسين والأساتذة يستأجرون بيوتا لهذا الغرض‏)‏ ـ الاتجار بالكتب والملازم الدراسية ـ اعتماد الواسطة والمحسوبية في ترقيات اللجان العلمية ـ تدهور أوضاع المكتبات والمعامل ـ تدخل الجهات الأمنية في تعيينات عمداء الكليات وأعضاء هيئات التدريس‏,‏ الأمر الذي أدي إلي تغول دور الأجهزة داخل الجامعات‏(‏ للعلم‏:‏ منذ سنتين اعتدي ضابط برتبة ملازم أول بالضرب علي أستاذ للغة الانجليزية في جامعة عين شمس‏,‏ ولم يعاقب أو يعاتب حتي الآن‏!).
‏أما أم الكوارث والفواجع فهي الجامعات الخاصة التي اصبح الفساد يعشش بصورة مزرية في أرجاء الغالبية العظمي منها‏,‏ بعدما تحولت إلي مشروعات تجارية وباب للثراء السريع والفاحش‏,‏ حتي قال لي أحد الخبراء إن أرباح تلك الجامعات باتت تتجاوز بكثير أي أرباح تتحقق من تجارة الأفيون أو السلاح‏,‏ وقد فطن بعض رجال الأعمال إلي هذه الحقيقة حتي باتوا يتسابقون علي إنشاء تلك الجامعات‏(9‏ تم إنشاؤها و‏5‏ تمت الموافقة عليها من حيث المبدأ و‏48‏ طلبا آخر لم يبت فيها بعد‏(!) ـ علما بأن في مصر‏15‏ جامعة حكومية‏).‏‏
(4)‏كارثة الجامعات‏(‏ لا تسأل عن المعاهد العليا‏)‏ ليست أمرا استثنائيا في المشهد التعليمي‏,‏ لانها تعد امتدادا لكارثة أخري اجتاحت كل مفاصل التعليم الاساسي‏,‏ وهو ما تعرضت له في مقالة سابقة‏(‏ نشرت في‏2005/10/18)‏ فيما اعتبرته بعضا من قسمات مصر الأخري المسكوت عنها‏.‏ ولم تكن الصورة المزرية لمراحل التعليم الأساسي هي أسوأ ما في الأمر‏,‏ لأن ماهو أسوأ ان وزارة التربية والتعليم حاربت وقمعت في منتصف التسعينيات جهود تشخيص الحالة والكشف عن مواضع الخلل فيها‏,‏ حتي انتهي بها الأمر ليس إلي إصلاح الخلل وإنما إلي إلغاء جهاز المتابعة الذي حاول خبراؤه التنبيه إلي مواضعه ومظانه‏.
‏في هذا الصدد فإنني مازلت احتفظ برسالة من أصداء تلك المقالة لا أريد أن أصدق مضمونها‏,‏ بعث بها الدكتور محمد عبدالرءوف كامل مدرس الإعلام بالجامعة‏,‏ خلاصتها أن الرجل كان يراجع كراسات بعض أبنائه‏,‏ فوجدها تتضمن دروسا تم تصحيحها ولكنها حافلة بالأخطاء الإملائية والنحوية‏,‏ وإذ فوجيء صاحبنا بذلك‏,‏ فحمل الكراسات وذهب إلي مدير المدرسة ليطلعه علي قرائن إهمال الأساتذة وضعفهم‏.‏ وكان الرد الذي سمعه منه مفاجأة أكبر‏,‏ حيث أبلغه المدير بأن ثمة قرارا وزاريا بعدم محاسبة التلاميذ علي أخطاء الإملاء والنحو لأن الأهم في اللغة هو قدرتها علي التوصيل‏,‏ وإذا ما تحقق ذلك الهدف فان الباقي لايهم‏.
‏والأمر كذلك فلعلك تتفق معي في تأييد الرأي الذي ذهب إلي أننا صرنا نحتاج إلي بذل جهد لكي نصل بالتعليم إلي درجة الصفر‏,‏ وفي زعمي أن إنشاء هيئة لتجويد التعليم ليس سوي دعوة عبثية‏,‏ لأنه لا يوجد تعليم يصلح للتجويد‏.‏لقد قامت الدنيا ولم تقعد حقا لأننا حصلنا علي صفر المونديال‏,‏ وأصيب الناس في مصر بنشوة فرح عارمة كادت تتحول إلي لوثة‏,‏ حين فزنا بكأس الأمم الإفريقية في مباريات كرة القدم‏.‏
ولم ينتبه أحد إلي أننا لم نخسر الكثير حين لم نفز باستضافة المونديال‏,‏ كما أننا لم نكسب الكثير حين فزنا بالكأس‏,‏ وأن المسألة كلها كانت وهما في وهم‏.‏ لأنك إذا ترجمت ذلك كله علي الأرض‏,‏ في مجتمع مأزوم مثل مصر‏,‏ فستجد أن الفوز بالكأس فيه من الوجاهة أكثر مما فيه من الإضافة‏.‏ أو قل إنه من قبيل الزهو بركض لا يراوح المكان‏,‏ في حين أنه لايمثل أي خطوة إلي الأمام‏.‏ وتلك خلاصة تبعث علي الخزي والأسي‏,‏ الذي يضاعف منه أن كثيرين غيرنا‏,‏ ممن صدقوا ريادتنا يوما ما‏,‏ سبقونا بمراحل‏,‏ وراحوا ينظرون إلينا بخليط من مشاعر العطف والرثاء‏.
‏في دراسة أجريت حول التفوق في الرياضيات‏,‏ قدمت إلي ندوة عقدت قبل حين في المنامة عاصمة البحرين‏,‏ حاز المراتب الثلاث الأولي تلاميذ من سنغافورة وكوريا الجنوبية وهونج كونج‏,‏ بينما جاء ترتيب العرب متراوحا بين الثلاثين والأربعين‏,‏ واحتلت مصر المرتبة السادسة والثلاثين‏.‏ وهو خبر لم يستوقف أحدا في المحروسة‏,‏ لأن أهلها لايزالون مخدرين ـ هل أقول مكتفين ـ بحكاية الفوز بكأس إفريقيا‏.‏
هل نبالغ كثيرا إذا قلنا‏:‏ إننا نحلم بيوم تولي الحكومة فيه قضية التعليم ـ التي هي بحق قضية المستقبل ـ بعضا من الاهتمام الذي نوجهه صوب كرة القدم؟

فى مسألة الدنمارك: نصيحة فهمى هويدى لعمرو خالد

عد إلى أهلك يا عمرو خالد!
فهمى هويدى-الشرق الاوسط 8/3/2006
ما زلت عاجزاً عن الاقتناع بمبادرة الداعية عمرو خالد، التي خاض بها ساحة السجال حول الرسوم الدنماركية، وكانت وراء دعوته إلى المؤتمر الحواري الذي تستضيفه كوبنهاجن غداً وبعد غد، ولست أخفي أنني لم أستسغ اقحامه لنفسه في الموضوع بهذه الصورة، التي حشد لها نخبة من العلماء والدعاة الذين نجلهم ونحترمهم، وأخشى ما أخشاه أن يتحول المؤتمر بعد انفضاضه إلى مجرد فرقعة إعلامية، تسحب من رصيد عمرو خالد أو تجرح صورته، في حين توظفها الحكومة الدنماركية سياسياً لصالحها.

وقبل أن أورد تحفظاتي على مبادرته أود التنبيه إلى أمور ثلاثة هي:
* الأول: أن عتبي عليه وحيرتي إزاء ما فعل لم يقللا من محبتي الشخصية له أو ثقتي في صدق نيته ونبل مقصده، ولذلك فإنني أرجو أن يستقبل كلامي بحسبانه قلقاً عليه بأكثر منه نقداً له، وحرصاً على الحفاظ على مكانته وليس النيل منها.

* الثاني: أنني قبل أن أكتب رأيي في “المبادرة” استطلعت انطباعات آخرين من محبي عمرو خالد ومشجعيه، ومنهم من أعرف أنه يحرص على استطلاع آرائهم في بعض مشروعاته وبرامجه وأفكاره، التماساً للنصح وإثراء للعمل الذي يؤديه، ولأنني واحد من هؤلاء، فقد سمحت لنفسي أن أتشاور معهم في شأن المبادرة التي فاجأتنا، ووجدت أن عدم الاقتناع بها يمثل قاسماً مشتركاً بيننا، وهو ما شجعني على التقدم باتجاه التعبير عن ذلك الموقف المتحفظ.

« الثالث: إنه كان بوسعي أن أبعث برأيي إليه في رسالة خاصة، كما حدث في حالات أخرى سابقة، ولكني وجدت أن الجدل حول المبادرة خرج إلى العلن، وأنها تعرضت للنقد من جانب الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي رئيس اتحاد علماء المسلمين، الذي اعتذر عن عدم المشاركة في الوفد المتجه إلى كوبنهاجن، كما تعرضت لنقد مماثل من جانب الجالية المسلمة في الدنمارك ذاتها، ولأن تاريخ المسلمين حافل باستدراكات أهل العلم بعضهم على بعض، فإنني لم أجد غضاضة في أن أضع تحفظاتي على المبادرة بين أيدي الكافة إبراء للذمة، من باب تصحيح الرؤى إن لم يكن تصحيح المسار.

إننا نعرف عمرو خالد داعية حقق نجاحاً مشهوداً في مخاطبة الشباب بوجه أخص، ويحسب له أنه اختار دائرة محددة لخطابه، حيث ركز على الهموم التي تعوق نهضة المسلمين، وعلى منظومة القيم الإيجابية والفضائل التي تفتقدها مجتمعاتنا في عالمنا المعاصر.

في الوقت ذاته يحسب له أيضاً أنه دائم الحذر في التعامل مع ملفين أساسيين هما: الفقه والسياسة بمفهومها المباشر، فقد ترك الفقه والفتوى لأهل الاختصاص، ثم أنه لم يخض تجاذبات السياسة وصراعاتها، وقدم نفسه باعتباره داعياً مستقلا عابراً للجماعات وللأوطان، اختار أرضية معينة وقف عليها، واستهدف جمهوراً معيناً عني بمخاطبته.

وبوسع المتابع لمسيرة عمرو خالد أن يلاحظ أنه خلال السنوات الأخيرة بدأ يتجاوز الدائرة التي أجاد فيها وأبدع، حيث أغراه النجاح بأن يتطلع لتحقيق أهداف أبعد، تتجاوز الدعوة إلى الفعل، وتنقله من دائرة التبشير والتنوير إلى موقع الساعي إلى التغيير، صحيح إن كل تغيير لابد أن يسبقه تبشير، ومن ثم فالترابط قوي بين الدائرتين، لكن الذي فات عمرو خالد أن لكل دائرة أهلها واختصاصها، ففكرة “صناع الحياة” مثلا تحتاج إلى داعية مثله لكي يشحذ همم الشباب ويحثهم على ضرورة الانتقال من السلب إلى الإيجاب، لكن مشروعات «صناعة الحياة» تتطلب خبراء في شئون التنمية الذاتية قادرين على الإبداع في هذا المجال، وعلى دراية بإمكانية وخصوصيات المجتمعات التي يتعاملون معها.

وكان حرياً به، وهو الذي مارس الحذر في الدعوة إلى الإسلام دون أن يخوض في أمور الفتوى، أن يسير في ذات النهج بحيث يدعو إلى الإيجابية في التدين ويحفز الشباب إلى أهمية المشاركة في صناعة الحياة، دون أن يزج بنفسه في مشروعات «الصناعة» وآلياتها، لكنه تخلى عن حذره في هذا الجانب للأسف، وكانت النتيجة أنه مارس أنشطة في مجال «صناعة الحياة»، اتسمت بالتبسيط والسذاجة، على ما سمعت من بعض خبراء التنمية الذاتية، وتلك كانت نتيجة متوقعة ومفهومة، لسبب أساسي هو أنه أقحم نفسه ـ بحسن نية ـ في مجال آخر يتطلب مؤهلات وقدرات لم تتوافر له.

قرأت للمستشار طارق البشري، المفكر المعروف، كلاماً مهماً يسلط مزيداً من الضوء على هذه النقطة، قال فيه إن الاقتناع بشمولية الإسلام ينبغي أن يستصحب إدراكاً لوجود تخصصات للأفراد العاملين والمؤسسات القائمة على أي شأن من شئونه، لذلك فإنه يظل من المهم للغاية أن يكون في خاطر المسلم وهو يرسم أطر أنشطته وجوه الأنشطة الأخرى ذات التميز عنه، لئلا تتعارض ولئلا يضعف بعضها بعضاً، وعليه أن يجتهد في أن يكون على وفاق وانسجام وتكامل مع ذوي التخصصات الأخرى.. صحيح أن الدعوة هي بحق من أوسع أبواب العمل الإسلامي، وهي من المجالات الفسيحة التي تتصل بمختلف التخصصات، إلا أن تلك العلاقة ينبغي أن تظل في حدود اتصال الملامسة وليس اتصال الاستيعاب، ولذلك يحسن بالدعوة أن تظل حريصة على ألا تستوعب أي وجه من وجوه الأنشطة التخصصية الفنية ولا تستوعب فيه، بمعنى أنه يحسن لها أن تستبقي لذاتها من عموم الدعوة، ما لا يجعلها تنحصر في وجه نشاط محدد، يحتاج إلى خبرات ومعارف تخصصية، ولا أن تنحصر في مشروع أو مشروعات عينية ملموسة محدودة، قد تصلح في التطبيق أو لا تصلح، وقد تصلح في ظرف زمان ومكان دون غيره من الظروف المتغيرة.

في تعامله مع الرسوم الدنماركية تمنيت أن يمارس عمرو خالد دوره كداعية، فيلامس الموضوع، إذا استخدمنا مصطلح المستشار البشري، مكتفياً بتحديد موقف مما جرى، ومنبهاً الرأي العام إلى أهمية ضبط الاحتجاج وترشيده، بحيث لا يتحول إلى انفعال يضر بالقضية ولا يخدمها، ولا بأس من أن يدعو الجهات المعنية في العالم الإسلامي إلى تحمل مسئوليتها في هذا الصدد، ولكن الذي حدث أنه ترك موقع الداعية، ونزل إلى الساحة بمبادرته، التي تضمنت تصدياً لملفات عدة، اعتبرها نموذجاً لما لا ينبغي للداعية أن يتورط فيه، إذ فضلا عن أنه بها يتجه إلى جمهور غريب عليه، لا يعرف لغته ولا طريقة تفكيره، فإنه يفتح ملفات مشكوكاً في جدوى الجهد الذي يبذله فيها داعية فرد، لأنها تحتاج إلى مؤسسات مقيمة في الغرب ومتفرغة، من ذلك قضية التعريف بالنبي وبالإسلام المحكومة هناك بتراث ثقافي مضاد تمتد جذوره إلى الحروب الصليبية، كما يفتح ملفاً آخر ليس له فيه باع، مثل قضية حرية التعبير التي هي مسألة قانونية ودستورية، وملفاً ثالثاً يفوق قدرته، وليس له به صلة مثل مشروعات التعايش مع الغرب، وهو يسوغ لنا أن نقول إنه كرر الخطأ الذي وقع فيه من قبل، حيث غادر الموقع الذي أجاد فيه وأبدع، وخاض في أمور لم يعرف عنه أنه خبرها أو أجاد فيها.

لقد بدا مثيراً للدهشة والاستغراب مثلا أن يطرح عمرو خالد مبادرته، في حين تحركت للتعامل مع القضية مؤسسات وتجمعات أخرى في العالم الإسلامي، وحققت في مسعاها تقدماً طيباً، وهو ما حدث مع منظمة المؤتمر الإسلامي مثلاً التي قاد أمينها العام حملة مطالبة الحكومة الدنماركية بالاعتذار، ودخل في مباحثات مع الاتحاد الأوروبي لاستصدار قرار يحظر الإساءة إلى مختلف الأديان والمقدسات، وأخشى ما أخشاه أن يكون عمرو خالد بما فعل قد أضعف ذلك الجهد، الذي هو أجدى وأنفع من أي حوار يمكن أن تجريه القافلة التي ستذهب إلى كوبنهاجن لمدة يومين، ثم ينفض السامر بعد ذلك، ويذهب كل إلى حال سبيله.

ثمة جهات أخرى عديدة كانت لها مواقفها واسهاماتها في القضية (الحملة العالمية لنصرة نبي الإسلام ستعقد مؤتمراً تستضيفه البحرين في منتصف الشهر الحالي)، وتلك الجهات لها مؤسساتها ذات الوزن في العالم الإسلامي، وإذا تحركت وطرحت أفكاراً حددت فيها اقتراحات أو مطالبات، فبوسعها أن تدعى تمثيلاً نسبياً للأمة يتمتع بالشخصية الاعتبارية، الأمر الذي يستدعي أسئلة من قبيل: باسم من، وبأي صفة يخاطب عمرو خالد الشعب الدنماركي أو الغرب؟ ولماذا قفز فوق تلك الكيانات والجهود، وآثر أن يصل منفرداً، ومصطحباً معه بعض الشخصيات الإسلامية؟ ولماذا تعامل مع الحكومة الدنماركية مباشرة، متجاهلاً الجالية الإسلامية هناك، التي لم يشاورها أحد ولم تدع ـ حتى كتابة هذه السطور على الأقل ـ إلى المؤتمر المزمع عقده غداً؟ وهل هو مدرك للدور الصهيوني في الحملة، خصوصاً بعدما نشر عن علاقة بين ناشر الصور المسيئة لنبي الإسلام، وبين أعدى أعداء الإسلام والمسلمين في أميركا، الصهيوني العتيد دانيال بابيس، وقد كتب أن الناشر كان في زيارة له قبل إطلاقه لحملته المشينة؟ ثم من يتعين عليه أن يذهب لمن، الصحيفة هي التي تذهب إلى الجاني أم العكس؟

إنني حين أتطلع إلى العالم الإسلامي الآن، وأتساءل عن هموم الساعة الساخنة التي تتطلب استنفارات، ومن ثم ينبغي أن نعبئ الجماهير لأجلها ونستنهض همة الكافة للدفاع عنها، ونحتاج لأجل ذلك إلى جهد الدعاة البارعين من أمثال عمرو خالد، فإنني لا أكاد أجد مكاناً في أولوية تلك الهموم لمسألة الرسوم الدنماركية، التي صارت هماً أوروبياً بامتياز (لأسباب اقتصادية بحتة) لكني سأجد على رأس القائمة مثلاً قضية الإتجاه إلى تجويع الشعب الفلسطيني وحصاره، ومحاولة إحراق العراق بنار الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة، ومأساة مسلمي كشمير الذين ضربهم الزلزال وشرد عشرات الألوف منهم، الذين هم أحوج ما يكونون للعون والإغاثة.

في هذه المجالات، يحزنني أن أبحث عن عمرو خالد ودوره التعبوي، فأجده مشغولاً بهم الأوروبيين، وواقفاً على مسافة شاسعة من هموم المسلمين المحدقة، الأمر الذي يدعوني لأن أوجه إليه نداء بأعلى صوت راجياً منه ألا يذهب بعيداً، وأن يعود إلى أهله وحضن أمته بأسرع ما يمكن.