١٥ مارس ٢٠٠٦

عن صفر الجامعات و صفر المونديال

هـزل في مقـام الجـد
فهمى هويدى-الاهرام 14/3/2006
إذا أردت نموذجا مصريا صميما لتداخل الهزل مع الجد‏,‏ والوهم مع الحقيقة‏,‏ فستجد ضالتك في المناقشات المطولة التي أجراها مجلس الشوري في الأسبوع الماضي‏,‏ حول مشروع إنشاء هيئة لمراقبة جودة التعليم‏.‏ وهي الفكرة التي تثير دهشة المرء لأول وهلة‏,‏ باعتبار انه لم يعد في بر مصر تعليم يمكن تجويده‏!‏‏
(1)‏لم أجد غرابة في الفكرة من حيث المبدأ‏.‏ لكنني استغربت للغاية مناقشتها وأخذها علي محمل الجد‏,‏ ومن ثم تضييع وقت المجلس علي مدي ثلاثة أيام في الجدل حول تفصيلات القانون الذي تبناها‏.‏ ولست ألوم الذين أعدوا المشروع‏,‏ واجهدوا أنفسهم في صياغة مواده‏,‏ باعتبار أن لهم مصلحة في تسويق بضاعتهم‏,‏ لكني لا أستطيع أن اعفي من اللوم أولئك الذين لم يفطنوا إلي الهزل في الموضوع‏,‏ ولم يخطر علي بال أحدهم أن يستدرك قائلا‏:‏ أليس من المنطق أن نوفر التعليم في البلد أولا ثم نسعي إلي تحسينه وتجويده؟
إنني لا أتصور أن أعضاء المجلس لايعرفون أن ثمة كارثة تعليمية من العيار الثقيل في مصر‏,‏ لها عواقبها الوخيمة التي تتجاوز الحاضر‏,‏ وتهدد بإجهاض الآمال المعقودة علي المستقبل‏.‏ ولا أريد أن اصدق انهم يعرفون ولكن لايريدون أن يتكلموا حتي لاتفوح رائحة الفضيحة‏.‏ ذلك أن الملف لم يعد فيه سر‏,‏ والفضيحة جري إشهارها علي الملأ‏,‏ بعدما أخرجت التقارير الدولية الجامعات المصرية من قوائم المؤسسات التعليمية المعتبرة‏,‏ وبعدما أفاضت الصحف المصرية بمختلف توجهاتها في الكشف عن وقائع وشواهد الصورة المشينة للتعليم في كل مراحله‏.‏مفزع في الكارثة لا ريب أنها وقعت وأصبحت ماثلة بين أيدينا‏,‏ ولها صداها الموجع في كل بيت مصري‏,‏ ولكن الأكثر مدعاة للفزع والخوف هو درجة اللامبالاة التي تتعامل بها الجهات المعنية مع تجلياتها المختلفة‏,‏ وتلك الجهود التي تبذل من جانب البيروقراطية المصرية للتستر علي الكارثة والتهوين من شأنها‏.
‏‏(2)‏قبل أيام قليلة علي إرسال مشروع قانون هيئة جودة التعليم إلي مجلس الشوري في‏(2/27),‏ نشرت صفحة شباب وتعليم في جريدة الأهرام تعليقا لزميلنا لبيب السباعي‏,‏ وهو من الخبراء المختصين بالموضوع‏,‏ مس فيه بعضا من جوانب المشهد الذي نتحدث عنه‏,‏ الذي وصفه بأنه مصيبة سوداء‏.‏ وقال إنه توقع أن تقوم الدنيا ولاتقعد في مصر بعدما تلقت أنباء الصفر الأكاديمي دوليا وإفريقيا‏,‏ وفق تقارير دولية اختفت منها جامعات مصر بالكامل من قائمة أفضل‏500‏ جامعة في العالم‏,‏ وهي القائمة التي ضمت سبع جامعات إسرائيلية‏.‏ وبعدها بعام كامل جاءت قائمة أفضل مائة جامعة في إفريقيا‏,‏ لكي تحتل جامعة القاهرة العريقة المركز رقم‏28,‏ في حين تقدمت عليها جامعات أخري في تنزانيا وناميبيا وأوغندا وموزمبيق وموريشيوس‏!
‏ ـ وهي الدول التي كانت تحلم قبل سنوات بأن ترسل ابناءها النوابغ للدراسة الجامعية علي منح مجانية كانت تقدمها لهم مصر‏,‏ وفاء لدورها الريادي والطليعي في القارة‏.‏انتقد زميلنا بمرارة غياب أي صدي له قيمة لفاجعة تراجع الجامعات المصرية‏.‏ فلا الوزير المختص اهتز له جفن‏,‏ ولا المجلس الأعلي للجامعات تعامل بجدية مع النتيجة‏,‏ ولا الجامعات ذاتها تحركت‏,‏ ولا لجان مجلسي الشعب والشوري عنيت بتحري أسباب الكارثة وملابساتها‏.‏ وباستثناء بعض ردود الأفعال الفردية‏.‏ فان أحدا لم يبد مدركا لخطورة انهيار الجامعات وفقدانها رصيدها العلمي والتاريخي‏,‏ وتأثير ذلك علي حاضر مصر ومستقبلها‏.‏ وبلغت المرارة ذروتها في إشارة لبيب السباعي إلي أن رد الفعل في مصر إزاء صفر المونديال‏(‏ حين استبعدت مصر ولم تحصل علي صوت واحد في الاقتراع علي استضافة المباريات‏)‏ كان أضعاف رد الفعل في صفر الجامعات‏(‏ في الأولي انهال اللوم علي جهاز الرياضة وأحيل بعض المسئولين إلي التحقيق واستبعد الوزير من تشكيل الوزارة‏,‏ في حين لم يحدث شيء في فضيحة الجامعات‏).
‏نقل زميلنا في تعليقه رأيا موجعا لأستاذ جامعي في الطب من جيل الرواد‏,‏ ذكر فيه أن خريج الطب في مصر كان في السابق يحظي بالتقدير والاحترام في جامعات أوروبا وأمريكا‏,‏ لكنه في ظل التدهور الراهن اصبح يعاد امتحانه إذا ما تقدم للعمل بدول الخليج‏,‏ حتي إذا كان حاصلا علي درجة الماجستير‏.‏ وخلص الأستاذ إلي أن مستوي الجامعات المصرية تدني لدرجة هبطت به إلي ما تحت الصفر‏,‏ وأننا نحتاج إلي جهد يبذل لكي نصل إلي درجة الصفر‏(!).
‏بعد أن يغتم المرء من جراء هذا الكلام‏,‏ يعاجله زميلنا بلطمة أخري‏,‏ إذ يتحدث عن إعلان نشرته إحدي الصحف لأستاذ جامعي يتولي توريد الأبحاث العلمية اللازمة للراغبين في الحصول علي شهادات الماجستير والدكتوراه‏,‏ مشيرا إلي أنها ليست حالة فردية‏,‏ ولكنها ظاهرة عامة‏,‏ لأن هناك عديدا من المراكز التي أسسها أساتذة معروفون لتسويق أمثال تلك الأطروحات الجاهزة في كل التخصصات‏,(‏ نسبة غير قليلة منها تباع لأبناء الدول الخليجية‏).
‏‏(3)‏هذه القصة نشرها بريد الأهرام في‏(2005/6/16):‏ ظل ميكانيكي السيارات يتعامل مع زبونه أستاذ الجامعة بمنتهي التوقير والاحترام لعدة سنوات‏,‏ ولكنه انقلب عليه بمعدل‏180‏ درجة حين كبر أولاده والتحقوا بالكليات‏,‏ حيث تحول الاحترام إلي ازدراء‏,‏ بعدما أدرك الرجل حقيقة الفساد في الجامعات المصرية‏.‏ وهو ما اعتبره صاحب الرسالة‏(‏ الدكتور منصور عبدالرحمن‏,‏ الأستاذ بهندسة المنصورة‏)‏ تحولا مفهوما‏.‏ وعلق علي القصة قائلا‏:‏ إن الفساد يستشري يوما بعد يوم في جامعاتنا المصرية‏,‏ فبأي ماء وجه أو حياء نتحدث عن البحث العلمي والمستقبل؟
في الفم ماء كثير‏.‏ ذلك أن وقائع التدهور وشواهده تتجاوز كل ما يخطر علي البال‏.‏ حتي يغدو هذا الذي مررنا به مجرد نقطة في بحر‏.‏لا أريد أن أطلق الكلام بحيث اغمط حق نماذج في الجامعات لأساتذة شرفاء لايزالون قابضين علي الجمر‏,‏ لكن هؤلاء اصبحوا استثناء في الوقت الراهن‏,‏ فضلا عن انهم تحولوا إلي فئة غريبة ومنقرضة‏,‏ بعدما انقلبت الآية واصبح غيرهم هم الأصل والقاعدة‏.‏بعض هؤلاء الأساتذة القابضين علي الجمر لم يحتملوا هول ما يرون‏,‏ فلم يكفوا عن إنكاره والتحذير من مغبته في كل منبر ومحفل ومناسبة‏.‏ ولدي ملف حافل بكتابات نشرتها لهم الصحف والمجلات تستصرخ من يهمه الأمر لإنقاذ سفينة التعليم الغارقة‏.‏في مقدمة هؤلاء الدكاترة حامد عمار وسعيد إسماعيل ومحمد أبوالغار وكمال نجيب ورءوف عباس والشافعي بشير ورضوي عاشور ومصطفي كامل السيد‏..‏ وغيرهم‏.‏
ولأن المجال لايتسع لعرض التفاصيل الكارثية التي أوردوها في كتاباتهم‏,‏ فإنني سأكتفي باستعراض عناوين الفواجع التي استأثرت باهتمامهم‏,‏ ومنها علي سبيل المثال‏:‏ شيوع السرقات العلمية بين أعضاء هيئات التدريس ـ تراخي القيادات الجامعية في محاسبة المنحرفين ـ انتشار الدروس الخصوصية‏(‏ بعض المدرسين والأساتذة يستأجرون بيوتا لهذا الغرض‏)‏ ـ الاتجار بالكتب والملازم الدراسية ـ اعتماد الواسطة والمحسوبية في ترقيات اللجان العلمية ـ تدهور أوضاع المكتبات والمعامل ـ تدخل الجهات الأمنية في تعيينات عمداء الكليات وأعضاء هيئات التدريس‏,‏ الأمر الذي أدي إلي تغول دور الأجهزة داخل الجامعات‏(‏ للعلم‏:‏ منذ سنتين اعتدي ضابط برتبة ملازم أول بالضرب علي أستاذ للغة الانجليزية في جامعة عين شمس‏,‏ ولم يعاقب أو يعاتب حتي الآن‏!).
‏أما أم الكوارث والفواجع فهي الجامعات الخاصة التي اصبح الفساد يعشش بصورة مزرية في أرجاء الغالبية العظمي منها‏,‏ بعدما تحولت إلي مشروعات تجارية وباب للثراء السريع والفاحش‏,‏ حتي قال لي أحد الخبراء إن أرباح تلك الجامعات باتت تتجاوز بكثير أي أرباح تتحقق من تجارة الأفيون أو السلاح‏,‏ وقد فطن بعض رجال الأعمال إلي هذه الحقيقة حتي باتوا يتسابقون علي إنشاء تلك الجامعات‏(9‏ تم إنشاؤها و‏5‏ تمت الموافقة عليها من حيث المبدأ و‏48‏ طلبا آخر لم يبت فيها بعد‏(!) ـ علما بأن في مصر‏15‏ جامعة حكومية‏).‏‏
(4)‏كارثة الجامعات‏(‏ لا تسأل عن المعاهد العليا‏)‏ ليست أمرا استثنائيا في المشهد التعليمي‏,‏ لانها تعد امتدادا لكارثة أخري اجتاحت كل مفاصل التعليم الاساسي‏,‏ وهو ما تعرضت له في مقالة سابقة‏(‏ نشرت في‏2005/10/18)‏ فيما اعتبرته بعضا من قسمات مصر الأخري المسكوت عنها‏.‏ ولم تكن الصورة المزرية لمراحل التعليم الأساسي هي أسوأ ما في الأمر‏,‏ لأن ماهو أسوأ ان وزارة التربية والتعليم حاربت وقمعت في منتصف التسعينيات جهود تشخيص الحالة والكشف عن مواضع الخلل فيها‏,‏ حتي انتهي بها الأمر ليس إلي إصلاح الخلل وإنما إلي إلغاء جهاز المتابعة الذي حاول خبراؤه التنبيه إلي مواضعه ومظانه‏.
‏في هذا الصدد فإنني مازلت احتفظ برسالة من أصداء تلك المقالة لا أريد أن أصدق مضمونها‏,‏ بعث بها الدكتور محمد عبدالرءوف كامل مدرس الإعلام بالجامعة‏,‏ خلاصتها أن الرجل كان يراجع كراسات بعض أبنائه‏,‏ فوجدها تتضمن دروسا تم تصحيحها ولكنها حافلة بالأخطاء الإملائية والنحوية‏,‏ وإذ فوجيء صاحبنا بذلك‏,‏ فحمل الكراسات وذهب إلي مدير المدرسة ليطلعه علي قرائن إهمال الأساتذة وضعفهم‏.‏ وكان الرد الذي سمعه منه مفاجأة أكبر‏,‏ حيث أبلغه المدير بأن ثمة قرارا وزاريا بعدم محاسبة التلاميذ علي أخطاء الإملاء والنحو لأن الأهم في اللغة هو قدرتها علي التوصيل‏,‏ وإذا ما تحقق ذلك الهدف فان الباقي لايهم‏.
‏والأمر كذلك فلعلك تتفق معي في تأييد الرأي الذي ذهب إلي أننا صرنا نحتاج إلي بذل جهد لكي نصل بالتعليم إلي درجة الصفر‏,‏ وفي زعمي أن إنشاء هيئة لتجويد التعليم ليس سوي دعوة عبثية‏,‏ لأنه لا يوجد تعليم يصلح للتجويد‏.‏لقد قامت الدنيا ولم تقعد حقا لأننا حصلنا علي صفر المونديال‏,‏ وأصيب الناس في مصر بنشوة فرح عارمة كادت تتحول إلي لوثة‏,‏ حين فزنا بكأس الأمم الإفريقية في مباريات كرة القدم‏.‏
ولم ينتبه أحد إلي أننا لم نخسر الكثير حين لم نفز باستضافة المونديال‏,‏ كما أننا لم نكسب الكثير حين فزنا بالكأس‏,‏ وأن المسألة كلها كانت وهما في وهم‏.‏ لأنك إذا ترجمت ذلك كله علي الأرض‏,‏ في مجتمع مأزوم مثل مصر‏,‏ فستجد أن الفوز بالكأس فيه من الوجاهة أكثر مما فيه من الإضافة‏.‏ أو قل إنه من قبيل الزهو بركض لا يراوح المكان‏,‏ في حين أنه لايمثل أي خطوة إلي الأمام‏.‏ وتلك خلاصة تبعث علي الخزي والأسي‏,‏ الذي يضاعف منه أن كثيرين غيرنا‏,‏ ممن صدقوا ريادتنا يوما ما‏,‏ سبقونا بمراحل‏,‏ وراحوا ينظرون إلينا بخليط من مشاعر العطف والرثاء‏.
‏في دراسة أجريت حول التفوق في الرياضيات‏,‏ قدمت إلي ندوة عقدت قبل حين في المنامة عاصمة البحرين‏,‏ حاز المراتب الثلاث الأولي تلاميذ من سنغافورة وكوريا الجنوبية وهونج كونج‏,‏ بينما جاء ترتيب العرب متراوحا بين الثلاثين والأربعين‏,‏ واحتلت مصر المرتبة السادسة والثلاثين‏.‏ وهو خبر لم يستوقف أحدا في المحروسة‏,‏ لأن أهلها لايزالون مخدرين ـ هل أقول مكتفين ـ بحكاية الفوز بكأس إفريقيا‏.‏
هل نبالغ كثيرا إذا قلنا‏:‏ إننا نحلم بيوم تولي الحكومة فيه قضية التعليم ـ التي هي بحق قضية المستقبل ـ بعضا من الاهتمام الذي نوجهه صوب كرة القدم؟

ليست هناك تعليقات: