١٢ ديسمبر ٢٠٠٥

عن فتنة الاسكندرية ... فهمى هويدى يتساءل

مصر: من هو المضطهد.. ومن هو المجني عليه حقا؟
فهمى هويدى - الشرق الاوسط 9 / 11 / 2005
أحداث الفتنة الطائفية التي شهدتها مصر أخيرا قلبت الاعلام رأساً على عقب. حتى صور المسلمين فيها باعتبارهم مغتصبين ومعتدين، بينما الأقباط ضحايا مغلوبين على أمرهم. في حين أن وقائع الحدث كما جرت في مدينة الإسكندرية على العكس من ذلك تماماً، ولكن التسريبات التي حدثت حين انضافت إلى الصورة النمطية للمسلمين في الاعلام الغربي بوجه أخص، فإنها وضعت المسلمين في القفص وألصقت بهم زوراً وعدواناً نغمة اضطهاد الأقباط. وهو ما ضلل بعض المحللين والكتاب، وأشاع في أوساط النخبة انطباعاً مغلوطاً، كان من أصدائه الأخيرة أن أسقف الكنيسة الكاثوليكية في بريطانيا وجه رسالة إلى الرئيس المصري حسني مبارك في مستهل هذا الأسبوع دعاه فيها إلى انصاف المسيحيين ورفع الغبن عنهم.
ماذا تقول الوقائع عما حدث في الإسكندرية؟ أصل المشكلة أن بعض أتباع احدى الكنائس الكبيرة في المدينة (كنيسة مارجرجس) أعدوا مسرحية عنوانها «كنت أعمى والآن أبصرت».. خلاصتها أن شاباً قبطياً دخل في الاسلام، ليس اقتناعاً به ولكن تحت تأثير الاغراء بالعثور على وظيفة، والتزوج، والحصول على شقة سكنية. وحين عاش الشاب في وسط المجموعة التي شجعته على التحول إلى الاسلام، فإنه وجد كل شيء فيهم منفراً، فعاد إلى المسيحية مرة أخرى. وهذه هي الفكرة من وراء العنوان «كنت أعمى والآن أبصرت». التفاصيل في المسرحية ركزت على نقائص الاسلام، فانتقدت تعاليمه ووظفت مسألة الناسخ والمنسوخ لتسفيه الخطاب السماوي، وسخرت من القرآن وغمزت في موضوع الجهاد ونظام الزواج، إلى جانب أمور أخرى بدت كافية لإقناع الشاب بالرجوع في الاسلام والفرار من المجموعة.
في تقديم المسرحية اشارة إلى أنها أعدت تحت رعاية اثنين من القساوسة، وعرض لقائمة بأسماء 49 شخصاً «نالوا بركة العمل» حتى ظهر بالصورة التي عرض بها. وكان العرض الأول لها قبل سنتين في داخل كنيسة مارجرجس، ولم يسمع به أحد. وخلافاً لما أعلن فإنها عرضت بعد ذلك في شهر أغسطس (آب) الماضي، وتم تصويرها بكاميرات الفيديو، ثم نقلت إلى قرص مدمج (C.D)، وعبر هذا النقل تسربت المسرحية إلى خارج الكنيسة، وشاهدها آلاف المسلمين، وكنت واحداً منهم.
صدم المسلمون بمضمون المسرحية، التي لم تكن تتحدث عن المتطرفين كما ادعى البعض، وانما كانت تتحدث عن الدين والقرآن ونبي المسلمين، على نحو غير مسبوق. حيث لم يحدث شيء من هذا القبيل في أي مرحلة من مراحل التاريخ الحديث. وإذا كان قد حدث فهو على الأقل ظل وراء جدران الكنائس، ولم يخرج إلى الناس بمن فيهم عامة المسلمين.
الثابت أن شريط المسرحية تم تداوله في جامعة حلوان في بداية الأمر، التي تبعد حوالي 400 كيلو متر عن مدينة الإسكندرية، وفي ذلك الوقت علمت أجهزة الأمن بأمره، فأبلغت النيابة العامة به، حتى تتخذ الاجراء القانوني المناسب، باعتبار أن مضمونه مما تنطبق عليه نصوص قانون العقوبات التي تحظر ازدراء الأديان. غير أن النيابة العامة التزمت الصمت، في الأغلب لكي تتيح الفرصة لتسوية الموضوع سياسياً، وتجنباً للضجيج الاعلامي الذي يمكن أن يحدث، خصوصاً في العالم الخارجي ـ إذا ما قدم المسؤولون عن المسرحية، الذين وردت أسماؤهم بالكامل في التسجيل ـ إلى النيابة أو أحيلوا إلى القضاء.
حين ذاع الأمر في الإسكندرية وشاهدت المسرحية أعداد كبيرة من المسلمين، وسمع أضعافهم بمضمونها، نظمت مجموعات منهم يوم الجمعة 14/10مسيرة سلمية اتجهت إلى مقر كنيسة «مارجرجس»، حيث أحاطت بها، وأوصل منظمو المسيرة رسالة إلى آباء الكنيسة أعربت عن الاحتجاج على تنديد المسرحية وسخريتها من دين المسلمين، كما طالبت باعتذار بطريرك الأقباط البابا شنودة عنها، باعتباره رأس الطائفة والمسؤول المباشر عن الكنيسة.
لم تستجب الكنيسة لمطلب المسلمين الغاضبين لدينهم، وظلت النيابة العامة على صمتها، في حين كانت مشاعر الغضب تسري وتتصاعد في مدينة الإسكندرية، فما كان من جموع المسلمين الذين استبد بهم الانفعال إلا أن خرجوا بعد صلاة الجمعة في الأسبوع التالي (يوم 21/10) . وللأسف فإنهم هاجموا الكنيسة معبرين عن غضبهم بطريقة انفعالية. حتى أن واحداً منهم اعتدى بسكين على احدى الراهبات وحدث اشتباك بين جموع الغاضبين وبين رجال الأمن، أدى إلى مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة أكثر من مائة شخص بجروح مختلفة.
ظل البابا شنودة متمسكاً بموقفه الرافض للاعتذار، وبعد اتصالات عديدة مع آباء الكنيسة الأرثوذوكسية بالإسكندرية، صدر عنها بيان مقتضب في 28/10 أعلن أن الكنيسة لا تقبل أي مساس بالدين الإسلامي، وأنه في حالة ثبوت أي خطأ من جانب الذين اشتركوا في المسرحية، فسوف توقع عليه العقوبة، وبدا واضحاً في البيان أن رجال الكنيسة يرفضون الإقرار بأن ثمة إهانة للمسلمين وعقيدتهم في المسرحية.
في هذه الأجواء تحركت المجموعات القبطية خارج مصر، وأذاعت في بيانات لها أن المسلمين يهاجمون كنائس الأقباط، هكذا بالمطلق ودون أي إشارة لأصل المشكلة، وفاقم الموقف أن البابا شنودة ظل معتصماً بالصمت، ورافضاً التعبير عن أي موقف يهدئ خواطر المسلمين، وحين تكلم في موعظة له يوم 26/10 فإنه بكى أمام جمهور الحاضرين قائلا إن في قلبه الكثير، لكنه يفضل الصمت «لكي يتكلم الرب»، ثم قال كلاماً موحياً بأن الأقباط يعانون في مصر اضطهاداً يماثل ما أصاب المسيح عليه السلام من اليهود.
حين عمم هذا الكلام على الكافة، ونقلت صور البابا وهو يبكي، فإن ذلك بدا تأييداً وترويجاً لمقولة اضطهاد الأقباط وكونهم ضحية لعدوان المسلمين وتعصبهم، وهي الرسالة التي احتفت بها وسائل الإعلام، وعممتها العناصر والجماعات القبطية المتعصبة في داخل مصر وخارجها، فانقلب الحال تماماً، وصار الجناة ضحايا، وتحول المجني عليهم إلى ظلمة ومعتدين.
لم يغير من الأمر كثيراً أن أصواتاً إصلاحية داخل الكنيسة ذاتها كان لها موقف أكثر موضوعية وإنصافا، وأصحاب تلك الأصوات اعترفوا بالخطأ واعتبروا المسرحية حماقة وعملاً يستحق الاستنكار والحساب، وكان من هؤلاء أسقف الشباب في الكنيسة الأنبا موسى، الذي أدلى بتصريحات للصحف يشجب فيها هذا الموقف، غير أن كلامه لم يغير شيئاً من الموقف، لأن صوته ضاع وسط أصوات المتعصبين المتعالية، فضلا عن أنه في ذلك كان معبراً عن رأيه الخاص وليس رأي الكنيسة.
لقد تمسك البابا الذي يرأس كنيسة لا يتجاوز اتباعها 6% من سكان مصر، بموقف التحدي والاتهام لمشاعر المسلمين الذين يمثلون 94% من السكان، الأمر الذي خلق أجواء غير صحية ارتفعت في ظلها وتيرة الغضب بين المسلمين على نحو أرجو ألا يخرج عن السيطرة، لكني لا أتردد في القول بأنه يوفر زاداً للفتنة يفتح الباب واسعاً لاشتعالها في أي وقت.
لم يكن قلب الصورة على النحو الذي رأيت هو المفارقة الوحيدة، لأن هناك أكثر من مفارقة أخرى، منها مثلا أن الذين يتحدثون عن اضطهاد الأقباط الذين يمثلون 6% من السكان يتجاهلون أنهم يسيطرون على نسبة تتراوح بين 30 و40% في مجال النشاط الاقتصادي، ومنها أيضاً أنهم يتمتعون بحرية واسعة في الحركة، لا يتمتع بها المسلمون .
وقد عبر عن المفارقة في هذا الجانب الدكتور محمد سليم العوا، المفكر المعروف وعضو مجموعة الحوار الإسلامي المسيحي، في مقالة نشرتها له صحيفة «الأسبوع» المصرية، قال فيها إن الأقباط في مصر يتمتعون بمقادير من النفوذ والقوة والسلطان السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لم يسبق لهم أن تمتعوا بمثلها، آية ذلك أن مصر تشهد حركة واسعة في بناء الكنائس والقلاع، في الوقت الذي تشترط فيه شروطاً معجزة لبناء المساجد، كما أن الجميع يعرفون ما تتمتع به الكنيسة من حرية في اتخاذ دورها مدارس وملاعب ونوادي وفصول تعليم ومستوصفات ومشاغل، وهي مفتوحة للعبادة والاعتراف وسائر أنواع النشاط دون أي قيد حكومي أو أمني على كهنتها وشعبها 24 ساعة يومياً و365 يوماً سنوياً .
في الوقت الذي تغلق فيه المساجد بعد الصلاة بربع ساعة، وتفتح قبلها بعشر دقائق ولا يسمح فيها بأي نشاط إلا الدروس الرسمية لموظفي الأوقاف، ويخضع داخلها وخارجها، ويخضع خطباؤها وروادها لرقابة أمنية مكثفة، وذلك كله يؤكد مدى النفوذ الذي بلغته الكنيسة القبطية، وسائر الكنائس الإنجيلية والكاثولوكية، مقارنة بمؤسسة العبادة للأغلبية التي أصبحت شبه مغلقة في وجوه أصحابها إلا سويعات من النهار والليل معاً.
ألا يحق لنا بعد ذلك أن نتساءل: من المضطهد والمجني عليه حقاً في مصر؟

ليست هناك تعليقات: