١٨ ديسمبر ٢٠٠٥

من ملف وفاء قسطنطين: مقال فهمى هويدى

هوامش علي مشهد الفتنة
فهمى هويدى- الأهرام القاهرية21/ 12/ 2004
نخطيء كثيرا إذا ما طوينا صفحة احداث الفتنة التي أطلت برأسها في مصر طيلة الاسبوعين الماضيين‏,‏ وإذا ماتجاوزناها بإعتبارها سحابة كدر وانقشعت‏.‏ ذلك أنني أزعم بأن تلك الأحداث بما شابها من ملابسات وما كشفت عنه من مثالب وعورات‏,‏ تمثل محطة مهمة في مسيرة الوطن‏,‏ يتعين الوقوف عندها مليا‏,‏ والتعامل معها بأعلي درجات الصدق والمسئولية‏.‏
‏(1)
‏لا أحد يكاد يصدق أن مصر كلها‏,‏ بطولها وعرضها وعمقها‏,‏ اهتزت وتوترت طيلة اسبوعين علي الأقل‏,‏ بسبب شائعتين مكذوبتين‏,‏ الأولي ادعت أن رجال الأمن في محافظة البحيرة اختطفوا زوجة كاهن لادخالها في الإسلام‏,‏ والثانية أن الزوجة اقامت علاقة خاصة مع رئيسها في العمل‏,‏ وهو مسلم‏,‏ مما اغراها بالتحول عن دينها‏,‏ فاختطفها الرجل وأخفاها بعيدا عن أسرتها‏.‏سرت الشائعتان في أوساط اقباط مصر سريان النار في الهشيم‏,‏ وتلقفها نفر من أقباط الخارج‏,‏ وكان لها صدي مثير اتسم بالاحتجاج والغضب‏,‏ الذي عبر عن نفسه بصور شتي‏,‏ تراوحت بين التظاهرات والهتافات التي شهدتها بعض الكنائس الرئيسية في القاهرة‏,‏ وبين الاشتباك مع رجال الأمن ورشقهم بالحجارة‏,‏ مما أدي إلي اصابة‏62‏ ضابطا وشرطيا ونقلهم إلي المستشفيات‏.‏ لم يخل الأمر من اصداء في الخارج‏,‏ تولاها المتربصون والمتصيدون الذين زادوا النار اشتعالا‏,‏ وراحوا يستثيرون الحكومة الأمريكية والمنظمات الدولية‏,‏ مطالبين أياهم بالتدخل لإنقاذ اقباط مصر من القهر والإبادة‏!‏وإذ تخللت التظاهرات في داخل مصر هتافات ونداءات بعضها كان جارحا لمشاعر المسلمين‏,‏ والبعض الآخر تطاول علي هيبة الدولة والنظام‏.‏ إلا أن ذلك فهم بحسبانه من تجليات الغضب غير المنضبط الذي استبد بالجميع‏,‏ والذي اججه بعض المتعصبين والمتطرفين داخل الكنيسة وخارجها‏.‏
ولكن أكثر ما أجج المشاعر ورفع من درجة التوتر أن بطريرك الأقباط‏,‏ البابا شنودة انضم بدوره إلي الغاضبين‏,‏ وامتنع عن القاء موعظة الاربعاء‏(12/8),‏ حين كانت الحشود التي جاءت من كل صوب بانتظاره في مقر البطريركية‏,‏ لتسمع منه كلمة تهديء الروع وتسكن الخواطر‏,‏ وخرج من باب خلفي متجها إلي دير وادي النطرون في صحراء مصر‏,‏ معلنا الاعتكاف هناك ومعبرا عن الاحتجاج بطريقته الصامتة والصاخبة‏.‏ وحين ذاع الخبر بين رواد الكنيسة المنتظرين‏,‏ تضاعف الغضب وتحول عند بعض الشباب إلي ثورة جامحة انفلت عيارها علي النحو الذي قدمت‏.‏لقد اجتمع في المشهد مختلف عناصر الإثارة‏.‏ فموضوعها ليس امرأة عادية‏,‏ وإنما هي زوجة كاهن من رموز الكنيسة‏.‏ كما أن ما شاع عن كيفية تحولها عن دينها بدا مستفزا‏,‏ فالأمن أقحم طرفا فيه‏,‏ أو أن رئيسها المسلم أغراها‏,‏ وفي المسألة اختطاف واختفاء‏,‏ اتهمت فيه اجهزة الأمن بالتواطؤ والتستر‏.‏ وفي غيبة المعلومات الصحيحة لما جري‏,‏ كانت كل ظروف إشعال الحريق مواتية‏.‏
‏(2)
‏الحقيقة اعلنها بيان النائب العام‏,‏ الذي نشرته صحف الجمعة الماضي‏12/17.‏ وكانت مجلة المصور في عدد‏12/16‏ قد سبقت بتجلية الأمر‏,‏ وكذلك العدد الأخير من صحيفة الاسبوع‏(12/19)‏ البيان الرسمي جاء قاطعا في تكذيب الشائعتين‏,‏ حيث تبين أنه لم يكن هناك إكراه ولا اختطاف ولا علاقة عاطفية أو غير عاطفية‏,‏ وأن السيدة وفاء قسطنطين زوجة الكاهن‏,‏ اختارت طواعية أن تدخل في الإسلام‏,‏ وأن كل الضجة التي حدثت لم يكن لها ما يبررها‏,‏ من التظاهرات الغاضبة إلي اعتكاف البابا شنودة في الدير‏.‏ورغم وضوح الحقائق الأساسية للقضية إلا أن ثمة هوامش تكمل الصورة وتجلي بعضا من جوانبها التي جري اغفالها لسبب أو آخر‏,‏ كما أن ثمة إشارات في المشهد ينبغي الوقوف عندها وتسلم رسائلها‏.‏
في إطار الهوامش اضيف إلي ما ذكر المعلومات التالية‏,‏ التي استقيتها من الجهات التي باشرت الموضوع من أوله إلي آخره‏.‏‏*‏ إن فكرة تحول السيدة وفاء قسطنطين‏(46‏ عاما‏)‏ إلي الإسلام خطرت لها منذ سنة ونصف سنة علي الأقل‏,‏ وبدأت حين تابعت إحدي الحلقات التليفزيونية التي تحدث فيها الدكتور زغلول النجار عن الإعجاز العلمي في القرآن‏.‏ وقد شجعها ما سمعت منه ومن غيره علي التمعن في الموضوع والتوسع فيه‏.‏ فقرأت كتبا عدة وسعت من معارفها وجذبتها إلي التعاليم الإسلامية‏,‏ فتقدمت خطوات أبعد‏,‏ حيث حفظت سبعا من سور القرآن الطوال‏,‏ كما حفظت جزء عم كله‏(‏ تلت بعضا مما حفظته علي مسامع من سألوها‏),‏ كما صامت الأيام الستة البيض‏,‏ والتزمت قدر الإمكان بأداء الصلوات الخمس اليومية‏.‏
‏*‏ رعت السيدة وفاء زوجها قس أبو المطامير‏,‏ الذي قطعت رجله بسبب تفاقم إصابته بمرض السكر‏,‏ إلي أن استقرت حالته‏,‏ ووجدت أن ثمة صعوبة في الجمع بين وضعها كزوجة للكاهن‏,‏ وبين اقتناعها بالتحول إلي الإسلام‏,‏ فقررت أن تلتحق بأسرة مسلمة في حي السلام بالقاهرة‏,‏ ارتبطت منذ ايام الدراسة بعلاقة صداقة حميمة مع إحدي بناتها‏.‏ وقبل ثلاثة أشهر من مغادرتها لبيت زوجها في أبو المطامير هيأت ابنتها شيرين المتخرجة في كلية العلوم لإدارة البيت في غيابها‏.‏ ودونت لها في دفتر خاص ما يتعين عليها عمله لكي لايختل شيء في وضع البيت‏.‏‏
*‏ بعدما رتبت أمر بيتها بصورة نسبية‏,‏ لجأت السيدة وفاء الي أسرة صديقتها في القاهرة‏,‏ وفي اليوم الأول من الشهر الحالي ذهبت مرتدية الحجاب بصحبة صديقتها وزميلتها القديمة إلي قسم الشرطة في الحي طالبة إشهار إسلامها‏.‏ وحين استمع الضابط المختص إلي قصتها‏,‏ وعرف أنها زوجة لكاهن‏,‏ أدرك أن للأمر حساسية خاصة‏,‏ فلم يشأ أن يستمر في الاجراءات الروتينية المتبعة في مثل هذه الحالة‏,‏ وأبلغ رئاسته بالموقف‏.‏
‏*‏ الإجراء المتبع في هذه الحالة‏,‏ الذي تنص عليه التعليمات الإدارية‏,‏ ألا يتم تسجيل إشهار تغيير الدين‏,‏ إلا إذا رتب للشخص المتحول جلسة أو أكثر مع بعض رجال الدين الذي ينتمي إليه‏,‏ معروفة باسم جلسات إسداء النصيحة وبناء علي ذلك تم إخطار مطران البحيرة بالامر‏.‏‏*‏ كانت تلك بداية مشكلة نشأت بين مطران البحيرة وبين جهاز الأمن‏.‏ فقد رفض المطران فكرة عقد جلسة أو جلسات إسداء النصح‏,‏ وطلب تسليم السيدة وفاء للكنيسة الارثوذوكسية‏.‏ في حين أن جهاز الأمن كان ملتزما بالتعليمات الإدارية‏,‏ ولم يكن مخولا في تجاوزها‏.‏ واستمر هذا التجاذب لمدة خمسة أيام‏,‏ في الفترة من‏3‏ إلي‏12/8.‏ وهي الفترة التي انتشرت فيها الشائعات واتهم جهاز الأمن بخطف السيدة والتستر عليها‏,‏ كما اتهم من جانب البعض بتعمد تعويق تسليمها الي الكنيسة‏,‏ في حين أن مسئوليه لم يفعلوا أكثر من التزامهم بالتعليمات الصادرة في الموضوع‏.‏
‏*‏ في هذه الاثناء رتبت بعض قيادات الكنيسة الارثوذوكسية التظاهرة التي حدثت أثناء القداس الذي أقيم بمناسبة وفاة الزميل سعيد سنبل‏,‏ وجري استدعاء عناصر متعددة من مختلف انحاء البلاد‏.‏ وفي حضور عدد من كبار المسئولين عبرت الحشود عن غضبها ورفعت لافتات الاحتجاج وبدا أن الموقف موشك علي الإنفلات أو الانفجار‏.‏‏*‏ حينئذ رؤي تسليم السيدة وفاء إلي الكنيسة‏.‏ وتم الاتفاق علي إيداعها في بيت بضاحية عين شمس بالقاهرة‏.‏ مخصص لإقامة السيدات اللاتي يجري إعدادهن للإنخراط في سلك الرهبنة‏(‏ المكرسات‏)‏ وكان ظنها أنها ذاهبة لكي تشهد جلسات إسداء النصح‏,‏ ولذلك استغرق الأمر بعض الوقت لاقناعها بأخذ حوائجها والانتقال إلي بيت عين شمس‏(‏ ذكرت صحيفة الاسبوع في‏12/19‏ أنها كانت صائمة في ذلك اليوم‏,‏ وطلبت تأجيل الموعد لحين الإفطار وأداء صلاة المغرب‏).‏‏*‏ مساء يوم‏12/8‏ خرجت السيدة وفاء من مقر اقامتها مرتدية حجابها‏,‏ وسلمت إلي بيت‏(‏ المكرسات‏)‏ في ضاحية عين شمس الذي أغلقت أبوابه ونوافذه‏..‏ وانقطعت صلة الأجهزة المختصة بها‏,‏ بينما ظل كبار رجال الكنيسة يترددون عليه طول الوقت‏.‏ وبعد ظهر يوم‏12/14,‏ بعد ستة أيام خرجت السيدة وفاء من البيت مرتدية غطاء الرأس‏(‏ إيشارب‏)‏ عليه صورة السيدة العذراء‏,‏ في حين تدلي علي صدرها صليب كبير‏,‏ حيث حملتها سيارة سوداء الي مقر نيابة عين شمس‏,‏ مصحوبة ببعض المحامين الأقباط وعدد من القصص‏,‏ وأمام وكيل النيابة‏,‏ وخلال أربع دقائق قالت السيدة وفاء بصوت إنها ولدت مسيحية وعاشت وسوف تموت مسيحية‏.‏ وهو ما اعتبر من الناحية القانونية عدولا من جانبها عن طلب إشهار إسلامها‏,‏ وعند هذا الحد انتهي دور أجهزة الأمن‏,‏ وحملت السيدة في سيارة اتجهت بها إلي دير وادي النطرون‏,‏ ومن ثم أسدل الستار علي هذا الفصل من القصة‏.‏
‏(3)
‏الملابسات والأصداء أهم من الواقعة وأخطر‏.‏ فتحول امرأة أورجل عن دينه أمر لم يعد مستغربا‏,‏ بل صار واردا في هذا الزمان‏,‏ ولدي الجهات المختصة في مصر قائمة بحالات عديدة كانت في مثل حساسية موضوع السيدة وفاء‏,‏ تمت معالجتها في هدوء‏,‏وبغير خسائر تذكر‏.‏وحين وقعت علي بعض تلك الحالات استوقفني أمران‏,‏ أولهما أنه حدث تسرع غير مألوف في نقل القضية إلي الرأي العام في الداخل والخارج‏,‏ فضلا عن أن ذلك تم بصورة مشوهة ومستفزة‏,‏ وثانيهما أن ردود الأفعال اعتمدت أسلوب التصعيد والصدام ولي الذراع‏,‏ وذلك يعد تطورا نوعيا يثير عديدا من التساؤلات حول حقيقة دور الكنيسة‏,‏ وما إذا كانت تمثل قيادة روحية أم قيادة سياسية‏,‏ وتمتد تلك التساؤلات لتشمل طبيعة علاقة الكنيسة بالدولة‏,‏ وحدود التزاماتها بالقانون والنظام العام‏.‏
هذه ملاحظة أولي علي المشهد‏.‏ الملاحظة الثانية أن ما جري كان في شق كبير منه نتيجة غياب المعلومات الصحيحة عن الرأي العام‏.‏ ومن أسف أن الإعلام المصري فشل في الاختبار‏,‏ وعجز عن تقديم تلك المعلومات الصحيحة للناس في الوقت المناسب‏,‏ مما اسهم في البلبلة وترويج الشائعات‏.‏الملاحظة الثالثة أن المجتمع بدوره رسب في الاختبار‏.‏ ذلك أننا طوال الفترة التي ظهرت فيها المشكلة علي السطح‏,‏ في الفترة من أول ديسمبر إلي‏14‏ منه‏,‏ كان طرفا الموضوع هما الكنيسة الارثوذوكسية والأجهزة الأمنية‏.‏ ولم نسمع صوتا لأي مؤسسة أخري في المجتمع‏,‏ لا الأزهر ولا الاحزاب ولا منظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان‏.‏ حتي عقلاء الأقباط التزموا الصمت واكتفوا بمشاهدة المباراة من مقاعد المتفرجين‏.‏ وإزاء ذلك فإنني أزعم أن الحدث كان بمثابة لحظة كاشفة‏,‏ فاجأتنا بحقيقة الفراغ السياسي الكبير الذي تعيشه مصر‏,‏ والذي وجدت الداخلية نفسها مضطرة إلي ملئه كيفما اتفق‏.‏
ملاحظتي الرابعة أن حالة الغضب المبالغ فيها التي عبر عنها الأقباط المتظاهرون تدل علي أن ثمة احتقانا متراكما يتعين الاعتراف بوجوده‏,‏وتحري أسبابه وجذوره‏,‏ كما ينبغي التعامل معه بكل جدية ومسئولية‏,‏ لأن التأجيل من شأنه أن يكرر مثل الأزمة التي مررنا بها‏.‏
‏(4)‏
ما العمل ؟ـ لست الأقدر علي إجابة السؤال ـ لكني أقترح مدخلين للتعامل مع الموضوع‏,‏ أولهما يدعو إلي عدم السماح للمتعصبين والمتطرفين والعناصر المشبوهة في الداخل أو الخارج بخطف الملف والحديث باسمه‏.‏ وذلك لن يحدث إلا إذا تقدم الصفوف العقلاء الغيورون علي مصالح الوطن وكرامة أهله‏,‏ وأثبتوا حضورا في مشهد الحل‏.‏وثانيهما أن يرصد الاحتقان في الساحة المصرية كلها‏,‏ وليس لدي فئة دون أخري‏,‏ حتي إذا ما ثبت أن الاحتقان في الساحة القبطية فرع عن أصل في مجمل الشارع المصري‏,‏ فربما نبهنا ذلك إلي أننا بصدد أزمة مجتمع لا أزمة فئة بذاتها فيه‏.‏ ولربما بدا الحل الديمقراطي لأزمة المجتمع‏,‏ الذي يجعل الجميع شركاء في صناعة حاضره ومستقبله‏,‏ بابا للتعامل مع الأصل‏,‏ الأمر الذي يعالج ما تفرع عنه‏,‏ فيستأصل الاحتقان فيه أو يخفف من حدته‏.‏يتداول بعض المثقفين المصريين اقتراحا يتحدث عن لجنة للحكماء يمثل فيها الطرفان‏,‏ وتتولي معالجة المشكلات العارضة التي تنشأ بين الحين والآخر‏.‏ وهو اقتراح لا أجد له مبررا لأن الأمر أكبر من أن تتصدي له لجنة اهلية‏.‏ فضلا عن أن في مصر مجلسا قوميا لحقوق الانسان‏,‏ يضم نخبة طيبة من أهل الخبرة والثقة‏,‏ وبه شعبة مختصة بالحقوق المدنية‏,‏ تستطيع أن تنهض بما يراد للجنة المقترحة أن تقوم به‏.‏ علما بأن المشكلة في بعض جوانبها ليست في مجرد تقدير الحقوق وإنما تكمن في قوة مؤسسة الدولة ومدي هيبتها‏,‏ وفي استعداد الأطراف المختلفة لاحترام النظام العام والانصياع للقانون‏,‏ كما أنها تكمن في غيبة المشروع السياسي الذي يستنهض همم الجميع ويصهرها في بوتقة الوطن‏,‏ لكي يوظفها لصالح حلم النهضة والتقدم المشترك‏.‏

ليست هناك تعليقات: