عن الدين و السياسة
فهمى هويدى-الاهرام 20/12/2005
هذا سؤال من وحي نتائج الانتخابات التي جرت في مصر: لماذا لا نحاول استثمار الطاقة الايمانية المتوافرة لدينا في النهوض بالوطن والأمة, بحيث نحولها إلي رافعة للبناء, بدلا من أن يختطفها غيرنا ليوظفها في التخريب والهدم؟
ثمة نكتة إسرائيلية معاصرة تحدثت عن يهود ملحدين, لايؤمنون بالله, لكنهم مع ذلك يعتقدون انه منح أرض إسرائيل لليهود. وهي نكتة أوردها ناشط حقوق الإنسان الشهير إسرائيل شاحاك في بحث له عن فكرة الطرد الترانسفير في العقيدة الصهيونية.
المعني في النكتة انه حتي الملحدين لم يجدوا غضاضة في تأييد وتبني فكرة الحق الإلهي في ارض فلسطين, مادام يسوغ الاستيلاء عليها وطرد أهلها, حيث تقتضي المصلحة العليا أن ينعقد الاجماع الوطني حول ذلك الهدف الذي هو من وجهة نظرنا جريمة بحق الإنسانية, المعني ايضا أن ثمة لحظات في التاريخ تتقرر فيها المصائر, وتفرض المسئولية التاريخية علي المعنيين بالأمر أن يرتفعوا فوق قناعاتهم وذواتهم بحيث تصبح مصلحة الوطن مقدمة علي كل ماعداها.
الأمر عندنا مختلف في الانتخابات البرلمانية التي شهدتها مصر خلال الشهر المنصرم كان أحد أهم محاور حملة التعبئة الجماهيرية, هو كيفية محاصرة ما سمي بالتيار الديني, وفض الناس من حوله, من ثم كان التركيز شديدا علي الإلحاح علي فصل الدين عن السياسة, وإخراج المقدس من الشأن العام, وهو ما استصحب حديثا متواترا عن خطر ما سمي بالدولة الدينية وتهديدها للمجتمع المدني, والعلمانية كضرورة وحل, الأمر الذي غدا متصادما مع نقيضا لشعار الإسلام هو الحل, الذي تصدر عناوين المعركة.
صحيح أن نسبة غير قليلة من الناس العاديين لم تصدق الكلام ولم تقتنع به لا تنس أن35% صوتوا للتيار الديني إلا أننا لانستطيع أن ننكر أن الحملة أثرت سلبا في الأجواء العامة, وكانت لها تجلياتها في سلوك بعض المؤسسات الرسمية, التي صارت أكثر حذرا وحساسية, ليس فقط إزاء ما سمي بالتيار الديني, وإنما ايضا بالنسبة للدين نفسه.
قال لي أحد الزملاء ممن لا علاقة لهم بالتيار الديني إنه وسط تلك الأجواء كلف بتقديم مطبوعة تتعلق بشئون الاسرة, فأشار في افتتاحيتها إلي رؤية القرآن للحياة وللموت, وكيف أن نصوصه تدل علي أن حفاوة الإسلام بالحياة أكبر بكثير من إشاراته إلي الموت. لكن مسئولا في الجهاز المعني قرأ الافتتاحية, وعبر عن إعجابه بها, وكان له تحفظا واحدا, انصب علي الاستشهاد بما ورد في القرآن عن الحياة والموت. فرجاه أن يحذف الإشارة حتي لاتكون للنص صبغة دينية.
حين سمعت القصة قلت: إلي هذا الحد بلغت الحساسية؟ وهل يصبح الكلام أكثر قبولا لو أن الإشارة كانت لقاموس أوكسفورد أو معجم لاروس؟
عند نفر من المثقفين اصبح اقصاء الدين مطلبا مسلما به, كما اصبح كل اقتراب منه مصدرا للقلق. والاقصاء صار يتراوح بين مجرد التهميش الذي قد يقبل بالعبادات ويدعو إلي استبعاد ما يتعلق بالمعاملات, وبين الحذف والإلغاء الذي يرفع شعار: الباب الذي يأتيك منه الريح أغلقه لتستريح. من هؤلاء من له مواقفه الفكرية المسبقة المتأثرة بالثقافة العلمانية الغربية, ومنهم من تأثر بالتعبئة الإعلامية التي اعتبرت نظام طالبان في أفغانستان هو النموذج المعتمد, الذي لن يحيد عنه أي متعلق بالنموذج الإسلامي. ليس ذلك فحسب, وإنما نجحت ثقافة الصورة في إقناع هؤلاء بأنهم سيرجعون إلي الوراء, كلما اقتربت خطاهم من الإسلام. وبالتالي فقد جري تلطيخ الراية الإسلامية عندهم حتي اصبحت مرتبطة بمصادرة الحريات وإقصاء الآخر, وبالإرهاب والتخلف واغتيال الأدباء والعداء للفن والإبداع, وانتهاك مختلف قيم حقوق الإنسان بعامة, والمرأة وغير المسلمين بوجه أخص... إلي آخر قائمة المثالب والرزايا.
ذلك كله حاصل بدرجة أو أخري في بعض النماذج والدوائر, ولذلك فليس عندي دفاع عن شيء منه, لكنه يظل جزءا من الحقيقة أو وجها واحدا لها, بائسا ان شئت الدقة ـ والموضوعية والانصاف يقتضيان أن نطالع الأوجه الأخري, لنعرف ما إذا كان ذلك الوجه يمثل قاعدة أم استثناء, والتزاما بالمقاصد والتعاليم أم خروجا وافتئاتا عليها.
في مناسبات عدة عبرت عن تصوري للأمر علي النحو التالي: يمثل الإيمان الديني طاقة كامنة لدي شعوبنا, وهي من القوة بحيث يتعذر حبسها أو حصارها. وهذه الطاقة يمكن استخدامها لتحقيق أنبل المقاصد كما يمكن توظيفها لصالح اتعس الأهداف. وعادة ما أشبهها بالطاقة الذرية, التي بها تصنع القنابل التي تشيع الخراب والموت, كما أنها تستخدم في الدفاع عن الحياة من خلال العلاج بالاشعاع لحالات الأورام الخبيثة, علي سبيل المثال. بالتالي فالمشكلة ليست في ذات الطاقة التي يعد التنديد بها نوعا من البلاهة والغباء لأن الأهم هو الكيفية التي توظف بها والوعاء الذي تصب فيه.بكلام آخر فنحن أمامنا خياران لا ثالث لهما, فإما أن نبادر إلي توظيف الحالة الإيمانية في الدفاع عن الحياة, أو يوظفها غيرنا في تشويه تلك الحياة وتخريبها. أدري أن بيننا ـ للأسف الشديد ـ أناسا تمكن منهم الشعور بالضغينة إلي الحد الذي جعلهم لايبالون باستمرار تخريب الحياة, فقط لكي يثبتوا أن الطاقة الإيمانية شر كلها, إلا أن هؤلاء يمثلون شريحة ميئوسا منها, ولا تؤتمن علي أي حديث جاد عن المصير والمصالح العليا المرجوة, من ثم فالسؤال الكبير الذي ينبغي أن ينشغل الراشدون بالإجابة عنه هو: كيف يمكن أن توظف الطاقة الإيمانية لمصلحة المجتمع وليس ضده؟
مؤسسة الوقف في التجربة الإسلامية تجسد الاجابة الصحيحة عن السؤال; من حيث إنها تترجم السياسة المدنية في أوسع معانيها. وتعريف السياسة الكامن وراء ذلك المفهوم هو أنها تدبير لأمور المعاش بما يصلحها في الدنيا, بما يؤدي إلي الفلاح في الآخرة ـ أي أن الواقفين هم أناس يتقربون إلي الله ويتعبدون له, متوسلين إلي ذلك بعمارة الأرض والنهوض والمجتمع.
وليس صحيحا أن الوقف في التجربة الإسلامية كان مقصورا علي إقامة المساجد والتكايا ورعاية المرضي والأيتام والأرامل( وتلك أهداف نبيلة لاريب) ـ لأن دوره كان أكثر من ذلك بكثير, حيث تجاوز الشأن العبادي المباشر والخيري والتقليدي, إلي ما هو إنمائي وسياسي, ويعد كتاب الدكتور إبراهيم غانم الأوقاف والسياسة في مصر الذي هو في الأصل أطروحة للدكتوراه, مرجعا نفيسا في هذا الصدد, لأن الباحث اعتمد فيه علي دراسة لخمسة عشر ألف حجة وقفية صدرت في مصر خلال القرنين الأخيرين أي حتي نهاية القرن العشرين. وقدمت لنا خلاصة الدراسة صورة مدهشة لقوة المجتمع وحيويته, واستبسال أهله في الذود عن حياضه, عبر التصدي المستمر لمحاولات تهديد حصونه واجتياحه من قبل الطامعين والمستعمرين.
في الكتاب فصلان, خصص أحدهما لسياسة الوقف في مجال الاشغال العامة والثاني لدوره في دعم الحركة الوطنية المصرية, في الشق الأول وجدنا أن الواقفين عنوا بشق الترع والقنوات وبناء الجسور وتمهيد الطرق وإقامة الأسواق والوكالات التجارية, وانشاء المنارات لهداية السفن وحفر الآبار وتوفير مياه الشرب للإنسان والحيوان وبناء الاستراحات والمضايف للمسافرين وابناء السبيل. الخ ذلك كله إلي جانب الأوقاف التي خصصت للرعاية الاجتماعية التي كان النفس الوطني فيها واضحا إلي جانب البعد الإنساني. من ذلك مثلا أن أحمد باشا المنشاوي وهو من أعيان الغربية, نص في وقفيته المحررة في عام1903 علي انه لا حق لأحد من الموقوف عليهم في الوقف, لا بنظر ولا استحقاق.. إذا تزوجت إحدي بناتهم بأحد من أهل الحمايات الاجنبية خلاف الدولة العلية العثمانية.
وفي مجال المقاومة الوطنية مارس الوقف ما اطلق عليه الباحث وصف الجهاد الصامت وذلك منذ احتلت بريطانيا مصر عام1882 وتجلت تلك المقاومة في ثلاثة مظاهر هي:
* اخراج العقارات من الاراضي والمباني وما في حكمها من نطاق المعاملات العادية, ومنع التصرف فيها بالبيع والشراء والرهن, وذلك بادخالها في نظام الوقف, وإخضاعها لقواعده وأحكامه, بدلا من تركها خاضعة لاحكام المعاملات في القانون المدني الذي طبقه الانجليز منذ عام1883, وكانت معظم مواده مستمدة من القانون الفرنسي, وكان الاقبال علي تحويل الممتلكات إلي أوقاف في تلك الظروف يتضمن معني مقاطعة القانون الاجنبي الوافد ورفض القضاء الخاص به.
* حرمان الاجانب من الاستفادة باعيان الوقف واشتراط مقاطعتهم وهو ما تجلي في العديد من حجج الوقف التي صدرت بعد الاحتلال, حيث تضمنت شروطا لاتفسر إلا بأنها تجسيد للمقاومة الشعبية, وقد تركزت حول مسألتين أولاهما منع تأجير الأعيان الموقوفة لأحد من الأجانب أو ذوي الامتيازات الأجنبية, وثانيتهما رفض اختصاص المحاكم المختلطة بالنظر في أي شأن من شئون الوقف, وبرغم أن شروط الواقف تتمتع بقوة الزامية لا تقبل التعديل, إلا أن الباحث لاحظ أن الواقفين في مدينة الإسكندرية ـ التي كانت أول ما احتله الانجليز ـ دأبوا علي اضافة نص في محررات اوقافهم اجاز إجراء أي تصرف فيما أوقفوه في حالة الحرب, مساهمة منهم في مجهودات الدفاع بما في ذلك هدم العقارات الموقوفة( إذا كانت مباني) وتسويتها بالأرض, بمجرد صدور أمر الحكومة. حتي إن أحدهم ـ اسمه علي جودة بن صالح ـ سجل في وقفيته التي تحررت في عام1889 أن الأرض التي وقفها واقعة في موقع مهم جدا لمحاصرة مدينة الإسكندرية وانه إذا احتاج الميري لأخذ أي شيء منها لزوم المصلحة العسكرية كالاستحكامات وغيرها فتعطي من دون مقابل مع إزالة ما بها.
* اسهام الأوقاف في شراء أراضي الدولة التي بيعت أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين, وفاء لبعض اقساط الديون الاجنبية( قصة الديون وما جلبته من تدخل أجنبي في شئون مصر معروفة) ذلك أن الحكومة اضطرت لبيع مساحات شاسعة من اراضي الأملاك الأميرية الحرة لمواجهة تلك الديون. وكان المتنافسون الرئيسيون علي شراء تلك الأراضي هم الاجانب من ناحية وكبار الملاك المصريين من ناحية وديوان عموم الأوقاف من ناحية ثالثة.
هل تسمي ذلك دينا أم سياسة أم الاثنين معا؟ وهل يعد تهديدا للمجتمع المدني أم تعميما له وتكريسا وتعميقا لجذوره؟ وإذا قيل إن ذلك هو فقط النصف الملآن من الكوب, فلماذا نغمطه حقه, ونهيل عليه الأوحال والتراب, ولماذا لا نحاول إحياءه والاستزادة منه لتقليص ما هو فارغ والخلاص منه؟
مثل هذه الاسئلة تتراءي للمرء وهو يتابع حملة التعبئة والتخويف من استدعاء الطاقة الإيمانية, ومن ثم استنفار الضمير العام, للاحتشاد من أجل الدفاع عن المجتمع وتخفيف احزان الناس وهمومهم, هو طريق ليس مفروشا بالورود حقا لكنه في حده الأدني يظل واحدا من طرق السلامة التي تفرض علينا المسئولية الوطنية وليس الالتزام الديني وجده, ألا نهجرها ونوصد دونها الأبواب. ولعلم الجميع فإن تلك الطاقة الإيمانية ليست ملكا لجماعة بذاتها, محظوظة كانت أم محظورة, لكنها ملك للجميع. وينبغي ألا يلام من يتقدم لاستثمارها, لان اللوم ينبغي أن يوجه للذين يسعون إلي تعطيلها أوتفريغها من مضمونها أو تخويفنا منها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق