هـزل في مقـام الجـد
فهمى هويدى-الاهرام 14/3/2006
إذا أردت نموذجا مصريا صميما لتداخل الهزل مع الجد, والوهم مع الحقيقة, فستجد ضالتك في المناقشات المطولة التي أجراها مجلس الشوري في الأسبوع الماضي, حول مشروع إنشاء هيئة لمراقبة جودة التعليم. وهي الفكرة التي تثير دهشة المرء لأول وهلة, باعتبار انه لم يعد في بر مصر تعليم يمكن تجويده!
(1)لم أجد غرابة في الفكرة من حيث المبدأ. لكنني استغربت للغاية مناقشتها وأخذها علي محمل الجد, ومن ثم تضييع وقت المجلس علي مدي ثلاثة أيام في الجدل حول تفصيلات القانون الذي تبناها. ولست ألوم الذين أعدوا المشروع, واجهدوا أنفسهم في صياغة مواده, باعتبار أن لهم مصلحة في تسويق بضاعتهم, لكني لا أستطيع أن اعفي من اللوم أولئك الذين لم يفطنوا إلي الهزل في الموضوع, ولم يخطر علي بال أحدهم أن يستدرك قائلا: أليس من المنطق أن نوفر التعليم في البلد أولا ثم نسعي إلي تحسينه وتجويده؟
إنني لا أتصور أن أعضاء المجلس لايعرفون أن ثمة كارثة تعليمية من العيار الثقيل في مصر, لها عواقبها الوخيمة التي تتجاوز الحاضر, وتهدد بإجهاض الآمال المعقودة علي المستقبل. ولا أريد أن اصدق انهم يعرفون ولكن لايريدون أن يتكلموا حتي لاتفوح رائحة الفضيحة. ذلك أن الملف لم يعد فيه سر, والفضيحة جري إشهارها علي الملأ, بعدما أخرجت التقارير الدولية الجامعات المصرية من قوائم المؤسسات التعليمية المعتبرة, وبعدما أفاضت الصحف المصرية بمختلف توجهاتها في الكشف عن وقائع وشواهد الصورة المشينة للتعليم في كل مراحله.مفزع في الكارثة لا ريب أنها وقعت وأصبحت ماثلة بين أيدينا, ولها صداها الموجع في كل بيت مصري, ولكن الأكثر مدعاة للفزع والخوف هو درجة اللامبالاة التي تتعامل بها الجهات المعنية مع تجلياتها المختلفة, وتلك الجهود التي تبذل من جانب البيروقراطية المصرية للتستر علي الكارثة والتهوين من شأنها.
(2)قبل أيام قليلة علي إرسال مشروع قانون هيئة جودة التعليم إلي مجلس الشوري في(2/27), نشرت صفحة شباب وتعليم في جريدة الأهرام تعليقا لزميلنا لبيب السباعي, وهو من الخبراء المختصين بالموضوع, مس فيه بعضا من جوانب المشهد الذي نتحدث عنه, الذي وصفه بأنه مصيبة سوداء. وقال إنه توقع أن تقوم الدنيا ولاتقعد في مصر بعدما تلقت أنباء الصفر الأكاديمي دوليا وإفريقيا, وفق تقارير دولية اختفت منها جامعات مصر بالكامل من قائمة أفضل500 جامعة في العالم, وهي القائمة التي ضمت سبع جامعات إسرائيلية. وبعدها بعام كامل جاءت قائمة أفضل مائة جامعة في إفريقيا, لكي تحتل جامعة القاهرة العريقة المركز رقم28, في حين تقدمت عليها جامعات أخري في تنزانيا وناميبيا وأوغندا وموزمبيق وموريشيوس!
ـ وهي الدول التي كانت تحلم قبل سنوات بأن ترسل ابناءها النوابغ للدراسة الجامعية علي منح مجانية كانت تقدمها لهم مصر, وفاء لدورها الريادي والطليعي في القارة.انتقد زميلنا بمرارة غياب أي صدي له قيمة لفاجعة تراجع الجامعات المصرية. فلا الوزير المختص اهتز له جفن, ولا المجلس الأعلي للجامعات تعامل بجدية مع النتيجة, ولا الجامعات ذاتها تحركت, ولا لجان مجلسي الشعب والشوري عنيت بتحري أسباب الكارثة وملابساتها. وباستثناء بعض ردود الأفعال الفردية. فان أحدا لم يبد مدركا لخطورة انهيار الجامعات وفقدانها رصيدها العلمي والتاريخي, وتأثير ذلك علي حاضر مصر ومستقبلها. وبلغت المرارة ذروتها في إشارة لبيب السباعي إلي أن رد الفعل في مصر إزاء صفر المونديال( حين استبعدت مصر ولم تحصل علي صوت واحد في الاقتراع علي استضافة المباريات) كان أضعاف رد الفعل في صفر الجامعات( في الأولي انهال اللوم علي جهاز الرياضة وأحيل بعض المسئولين إلي التحقيق واستبعد الوزير من تشكيل الوزارة, في حين لم يحدث شيء في فضيحة الجامعات).
نقل زميلنا في تعليقه رأيا موجعا لأستاذ جامعي في الطب من جيل الرواد, ذكر فيه أن خريج الطب في مصر كان في السابق يحظي بالتقدير والاحترام في جامعات أوروبا وأمريكا, لكنه في ظل التدهور الراهن اصبح يعاد امتحانه إذا ما تقدم للعمل بدول الخليج, حتي إذا كان حاصلا علي درجة الماجستير. وخلص الأستاذ إلي أن مستوي الجامعات المصرية تدني لدرجة هبطت به إلي ما تحت الصفر, وأننا نحتاج إلي جهد يبذل لكي نصل إلي درجة الصفر(!).
بعد أن يغتم المرء من جراء هذا الكلام, يعاجله زميلنا بلطمة أخري, إذ يتحدث عن إعلان نشرته إحدي الصحف لأستاذ جامعي يتولي توريد الأبحاث العلمية اللازمة للراغبين في الحصول علي شهادات الماجستير والدكتوراه, مشيرا إلي أنها ليست حالة فردية, ولكنها ظاهرة عامة, لأن هناك عديدا من المراكز التي أسسها أساتذة معروفون لتسويق أمثال تلك الأطروحات الجاهزة في كل التخصصات,( نسبة غير قليلة منها تباع لأبناء الدول الخليجية).
(3)هذه القصة نشرها بريد الأهرام في(2005/6/16): ظل ميكانيكي السيارات يتعامل مع زبونه أستاذ الجامعة بمنتهي التوقير والاحترام لعدة سنوات, ولكنه انقلب عليه بمعدل180 درجة حين كبر أولاده والتحقوا بالكليات, حيث تحول الاحترام إلي ازدراء, بعدما أدرك الرجل حقيقة الفساد في الجامعات المصرية. وهو ما اعتبره صاحب الرسالة( الدكتور منصور عبدالرحمن, الأستاذ بهندسة المنصورة) تحولا مفهوما. وعلق علي القصة قائلا: إن الفساد يستشري يوما بعد يوم في جامعاتنا المصرية, فبأي ماء وجه أو حياء نتحدث عن البحث العلمي والمستقبل؟
في الفم ماء كثير. ذلك أن وقائع التدهور وشواهده تتجاوز كل ما يخطر علي البال. حتي يغدو هذا الذي مررنا به مجرد نقطة في بحر.لا أريد أن أطلق الكلام بحيث اغمط حق نماذج في الجامعات لأساتذة شرفاء لايزالون قابضين علي الجمر, لكن هؤلاء اصبحوا استثناء في الوقت الراهن, فضلا عن انهم تحولوا إلي فئة غريبة ومنقرضة, بعدما انقلبت الآية واصبح غيرهم هم الأصل والقاعدة.بعض هؤلاء الأساتذة القابضين علي الجمر لم يحتملوا هول ما يرون, فلم يكفوا عن إنكاره والتحذير من مغبته في كل منبر ومحفل ومناسبة. ولدي ملف حافل بكتابات نشرتها لهم الصحف والمجلات تستصرخ من يهمه الأمر لإنقاذ سفينة التعليم الغارقة.في مقدمة هؤلاء الدكاترة حامد عمار وسعيد إسماعيل ومحمد أبوالغار وكمال نجيب ورءوف عباس والشافعي بشير ورضوي عاشور ومصطفي كامل السيد.. وغيرهم.
ولأن المجال لايتسع لعرض التفاصيل الكارثية التي أوردوها في كتاباتهم, فإنني سأكتفي باستعراض عناوين الفواجع التي استأثرت باهتمامهم, ومنها علي سبيل المثال: شيوع السرقات العلمية بين أعضاء هيئات التدريس ـ تراخي القيادات الجامعية في محاسبة المنحرفين ـ انتشار الدروس الخصوصية( بعض المدرسين والأساتذة يستأجرون بيوتا لهذا الغرض) ـ الاتجار بالكتب والملازم الدراسية ـ اعتماد الواسطة والمحسوبية في ترقيات اللجان العلمية ـ تدهور أوضاع المكتبات والمعامل ـ تدخل الجهات الأمنية في تعيينات عمداء الكليات وأعضاء هيئات التدريس, الأمر الذي أدي إلي تغول دور الأجهزة داخل الجامعات( للعلم: منذ سنتين اعتدي ضابط برتبة ملازم أول بالضرب علي أستاذ للغة الانجليزية في جامعة عين شمس, ولم يعاقب أو يعاتب حتي الآن!).
أما أم الكوارث والفواجع فهي الجامعات الخاصة التي اصبح الفساد يعشش بصورة مزرية في أرجاء الغالبية العظمي منها, بعدما تحولت إلي مشروعات تجارية وباب للثراء السريع والفاحش, حتي قال لي أحد الخبراء إن أرباح تلك الجامعات باتت تتجاوز بكثير أي أرباح تتحقق من تجارة الأفيون أو السلاح, وقد فطن بعض رجال الأعمال إلي هذه الحقيقة حتي باتوا يتسابقون علي إنشاء تلك الجامعات(9 تم إنشاؤها و5 تمت الموافقة عليها من حيث المبدأ و48 طلبا آخر لم يبت فيها بعد(!) ـ علما بأن في مصر15 جامعة حكومية).
(4)كارثة الجامعات( لا تسأل عن المعاهد العليا) ليست أمرا استثنائيا في المشهد التعليمي, لانها تعد امتدادا لكارثة أخري اجتاحت كل مفاصل التعليم الاساسي, وهو ما تعرضت له في مقالة سابقة( نشرت في2005/10/18) فيما اعتبرته بعضا من قسمات مصر الأخري المسكوت عنها. ولم تكن الصورة المزرية لمراحل التعليم الأساسي هي أسوأ ما في الأمر, لأن ماهو أسوأ ان وزارة التربية والتعليم حاربت وقمعت في منتصف التسعينيات جهود تشخيص الحالة والكشف عن مواضع الخلل فيها, حتي انتهي بها الأمر ليس إلي إصلاح الخلل وإنما إلي إلغاء جهاز المتابعة الذي حاول خبراؤه التنبيه إلي مواضعه ومظانه.
في هذا الصدد فإنني مازلت احتفظ برسالة من أصداء تلك المقالة لا أريد أن أصدق مضمونها, بعث بها الدكتور محمد عبدالرءوف كامل مدرس الإعلام بالجامعة, خلاصتها أن الرجل كان يراجع كراسات بعض أبنائه, فوجدها تتضمن دروسا تم تصحيحها ولكنها حافلة بالأخطاء الإملائية والنحوية, وإذ فوجيء صاحبنا بذلك, فحمل الكراسات وذهب إلي مدير المدرسة ليطلعه علي قرائن إهمال الأساتذة وضعفهم. وكان الرد الذي سمعه منه مفاجأة أكبر, حيث أبلغه المدير بأن ثمة قرارا وزاريا بعدم محاسبة التلاميذ علي أخطاء الإملاء والنحو لأن الأهم في اللغة هو قدرتها علي التوصيل, وإذا ما تحقق ذلك الهدف فان الباقي لايهم.
والأمر كذلك فلعلك تتفق معي في تأييد الرأي الذي ذهب إلي أننا صرنا نحتاج إلي بذل جهد لكي نصل بالتعليم إلي درجة الصفر, وفي زعمي أن إنشاء هيئة لتجويد التعليم ليس سوي دعوة عبثية, لأنه لا يوجد تعليم يصلح للتجويد.لقد قامت الدنيا ولم تقعد حقا لأننا حصلنا علي صفر المونديال, وأصيب الناس في مصر بنشوة فرح عارمة كادت تتحول إلي لوثة, حين فزنا بكأس الأمم الإفريقية في مباريات كرة القدم.
ولم ينتبه أحد إلي أننا لم نخسر الكثير حين لم نفز باستضافة المونديال, كما أننا لم نكسب الكثير حين فزنا بالكأس, وأن المسألة كلها كانت وهما في وهم. لأنك إذا ترجمت ذلك كله علي الأرض, في مجتمع مأزوم مثل مصر, فستجد أن الفوز بالكأس فيه من الوجاهة أكثر مما فيه من الإضافة. أو قل إنه من قبيل الزهو بركض لا يراوح المكان, في حين أنه لايمثل أي خطوة إلي الأمام. وتلك خلاصة تبعث علي الخزي والأسي, الذي يضاعف منه أن كثيرين غيرنا, ممن صدقوا ريادتنا يوما ما, سبقونا بمراحل, وراحوا ينظرون إلينا بخليط من مشاعر العطف والرثاء.
في دراسة أجريت حول التفوق في الرياضيات, قدمت إلي ندوة عقدت قبل حين في المنامة عاصمة البحرين, حاز المراتب الثلاث الأولي تلاميذ من سنغافورة وكوريا الجنوبية وهونج كونج, بينما جاء ترتيب العرب متراوحا بين الثلاثين والأربعين, واحتلت مصر المرتبة السادسة والثلاثين. وهو خبر لم يستوقف أحدا في المحروسة, لأن أهلها لايزالون مخدرين ـ هل أقول مكتفين ـ بحكاية الفوز بكأس إفريقيا.
هل نبالغ كثيرا إذا قلنا: إننا نحلم بيوم تولي الحكومة فيه قضية التعليم ـ التي هي بحق قضية المستقبل ـ بعضا من الاهتمام الذي نوجهه صوب كرة القدم؟